الهروب من الأوطان
كتب حسن السلمان : لمدىً بعيد، ستبقى عالقةً في الأذهان صورة المواطنين الأفغان الذين كانوا يركضون أمام وخلف طائرة النقل العسكرية الأميركية، وهي في طريقها للإقلاع من مطار كابل في محاولة جنونية لإيقافها والصعود على متنها، بعد انسحاب الأميركان من بلدهم وسقوطها في قبضة حركة طالبان من جديد، بشكلٍ دراماتيكي خاطف لم يتوقعه أحد، إلى درجة أن بعضاً منهم، وبسبب الخوف من وحشية طالبان وبطشها واجرامها الذي خبروه عندما كانت الحركة تحكمهم في تسعينيات القرن المنصرم، تمكن من حشر نفسه في جيب خارجي للطائرة ليسقط وتتلاشى أحلامه بالهروب من كابوس مرعب يدعى طالبان، حالما ارتفعت الطائرة في الهواء.
إنها صورة بليغة مؤلمة تختزل معاناة هذا الشعب الفقير البائس الذي عانى ماعاناه من ويلات الحروب، سواء إبان التدخل السوفياتي لصالح الحكومة الموالية له آنذاك وم اتلاه من حروب أهلية طاحنة ذات طابع طائفي وعرقي ومذهبي، اسفر عن حكم حركة طالبان المتطرفة للبلاد ومن ثم حرب الإطاحة بها على يد الأميركان والتحالف الدولي بعد أحداث الحادي عشر من ايلول، وإقامة حكومية محلية هشة ينخرها الفساد لم تستطع أن تحميهم من الفقر والبؤس وجحيم السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والاغتيالات. إن تلك الصورة التي أصبحت أيقونة اعلامية لحقيقة ما يعانيه هذا المجتمع المبتلى، تكشف بشكل جلي وموجع ما يعنيه أن يخاطر انسان بحياته من أجل الفرار من وطنه، الذي عاش وترعرع في كنفه واللجوء الى بلد آخر لايعرف عنه شيئاً طلباً للعيش الكريم الآمن والحرية والشعور بقيمة الذات، تاركاً خلف ظهره أعزّ ما لديه من بيت بناه بعرقهِ ودمه، وعائلة عاش في أحضانها أجمل سنوات عمره، وذكريات جميلة أمضاها في موطن آبائه وأجداده غير مبالٍ بما سيتعرض له من مخاطر جمة، ومعاناة هائلة للتكيف مع بيئة غريبة عنه، وتعايش صعب مع ثقافة مغايرة لثقافته وتقاليده ومعتقداته وكل ماكان يشكل هويته وتاريخه الشخصي. ولأن الشيء بالشيء يذكر، تعيدنا صورة هؤلاء الأفغان المساكين وتصرفهم الجنوني باعتراض الطائرة والصعود على متنها، إلى مشاهد شبابنا الذين فروا من الوطن وتعرضوا إلى شتى صنوف العذاب والمصائر المأسوية، حيث غرق الكثير منهم وهو يحاول عبور البحار والمحيطات، وقتل البعض منهم على أيدي العصابات وقطاع الطرق، وتعرض البعض الآخر للخداع والفقدان والضياع، وأقرب صورة إلينا عن مأساة الشباب العراقي المهاجر ما تناقلته وسائل الإعلام وما صرحت به الجهات الحكومية المخولة، من أن هناك أكثر من 1500 مواطن عراقي عالق بين الحدود البيلاروسية/ الليتوانية، حيث استطاعت بعض وسائل الاعلام الأجنبية كمؤسسة «دويتشه فيله» الألمانية من الوصول إلى مكان احتجازهم ونقلت صورة تدمي القلوب عن أوضاعهم المزرية. حيث السكن في الخيام المكشوفة، والبيئة التي تفتقر إلى أبسط الشروط الصحية، بلا ماء صالح للشرب، ووجبات غذاء كافية، وأدوية لمن يعانون من الأمراض، ومما يزيد من آلامهم وتعاستهم تلك المعاملة السيئة التي يتلقونها من القائمين على مراكز الاحتجاز من دركٍ وحراس حدود وموظفين حكوميين وصلت إلى حد الإيذاء الجسدي والإهانات، حيث وصفت تلك الوسيلة الإعلامية التي التقت بهم من وراء أسوار مكان الاحتجاز، بأن مراكز احتجازهم أشبه ما تكون بمعسكرات اعتقال، وأنهم يُعامَلون كما لو أنهم لصوص أو مجرمون لا طالبي لجوء. إن تلك الصور وصمة عار في جبين الإنسانية عندما يُجبر الإنسان على تجرع «المُرّ» والمجازفة بحياته لمجرد رغبته أن يحيا حياة تليق بوجوده كـ«إنسان» كامل
الحقوق.