كتب عطية مسوح: المعرفة والفضيلة
ارتباط الفضيلة بالمعرفة، وميل الإنسان الفطريّ إلى الخير، هما جوهر الفلسفة السقراطيّة، وهما اللتان تحدّدان محتوى واتّجاه النشاط الفلسفيّ الرامي إلى تعليم الإنسان كيف يعيش، وعليهما تركّزت دروس سقراط لطلّابه وحواراتُه معهم.
عطية مسوح المعرفة والفضيلة: هذه ثنائيّة فلسفيّة غير ضدية، شغلت الفلاسفة منذ فجر التفكير الفلسفيّ، فوجدناها حاضرة في الفلسفتين القديمتين الهنديّة واليونانيّة وغيرهما، وفي عصر النهضة الأوروبيّة والزمن الراهن. وسقراط اليونانيّ هو أهم الفلاسفة القدماء الذين اهتموا بهذه الثنائية، بل إن قارئه يجد أنها مركز أفكاره ومحور نشاطه الفلسفي.
عطية مسوح
وقبل أن نتحدث عن أفكار سقراط المتعلقة بالمعرفة والفضيلة، نريد أن نذكّر بقول الفيلسوف الرومانيّ شيشرون: (أنزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض)، بمعنى أنه جعل الإنسان وحياته مركز اهتمام الفلسفة بدلاً من الماورائيات والكونيّات الكبرى التي شغلت الكثير من الفلاسفة قبله (وبعده أيضاً)، وقد عبّر سقراط ذاته عن ذلك بتأكيده أنّ مهمة الفلسفة الأولى هي (تعليم الإنسان كيف يعيش).لقد ربط سقراط الفضيلة بالمعرفة، وأهمّ فكرة سقراطية يتجلى بها هذا الربط، هي أنّ الإنسان لا يبتعد عن الفضائل إلاّ لأنه يجهلها، ولا يعمل شرّاً إلاّ لأنه يجهل أنّه شرّ. وتوحي فكرة سقراط هذه بأنّه يرى الإنسان ميّالاً للخير فعّالاً له، لأنّه مفطور عليه، أي لأنه خيّر بطبعه وليس لأنه مُجبَر عليه قانونياً.
ارتباط الفضيلة بالمعرفة
هاتان الفكرتان، أي ارتباط الفضيلة بالمعرفة. وميل الإنسان الفطريّ إلى الخير، هما جوهر الفلسفة السقراطيّة. وهما اللتان تحدّدان محتوى واتّجاه النشاط الفلسفيّ الرامي إلى تعليم الإنسان كيف يعيش. وعليهما تركّزت دروس سقراط لطلّابه وحواراتُه معهم.
ولعلّ قارئ سقراط المدقّق يستنتج أنّ السعي إلى المعرفة عنده هو سعي ذو جانبين متكاملين هما: السعي إلى معرفة الفضائل وتمييز الخير من الشرّ، والسعي إلى معرفة النفس، ولا يقلّ أحد الجانبين أهمية عن الآخر. وبطبيعة الحال فإنّ معرفة الذات هي مهمة ذاتية، لذلك طلب سقراط من الإنسان أن يعرف نفسه: (اعرف نفسك بنفسك، إذ لا يستطيع أحد غيرك أن يعرّفك بها).
وأظنّ أنّ هذا الجانب من المعرفة هو الأصعب، وقد تصل صعوبته إلى درجة الاستحالة. لماذا تكون معرفة النفس صعبة بل مستحيلة؟ ببساطة، لأنّ النفس تقوم بعملية دفاع ذاتيّ عن خصائصها وأسرارها في وجه محاولة استباحة هذه الخصائص والأسرار، حتى وإن جاءت هذه المحاولة من صاحب النفس ذاتها. إنّ معرفة النفس لا تعني معرفة إيجابياتها وقدراتها فقط، بل تعني – بالدرجة الأولى – معرفة نواقصها ونقاط ضعفها، والنفس تأبى ذلك، فالإنسان يحمل استعداداً ذاتياً لرفض الاعتراف بنواقصه ونقاط ضعفه، وهذا الرفض هو ذاته نقطة ضعف كبيرة توجد بنسب متفاوتة لدى كلّ إنسان. إنّ اعتقاد المرء بأنه يعرف نقاط ضعفه ونواقصه (أي يعرف ذاته) هو اعتقاد خاطئ، بل هو ادّعاء باطل، فلو كان حقيقة لتجنّب هذا المرء كلّ ما يدفعه إلى ارتكاب الأعمال الضارة، ولأصبحت نفسه نقية كالبلور.هذا سبب ذاتي يعوّق معرفة الإنسان نفسه، لكنّ هناك سبباً آخر، هو سبب اجتماعي يمتّ إلى الفلسفة بصلة، وسنعرضه على النحو التالي: إذا كان باستطاعة الإنسان معرفة ذاته فهذا يعني أنّ الذات موضوعٌ للمعرفة، وحين تكون كذلك يمكن – نظرياً – أن يعرفها الآخرون، أي يمكن كشف دواخل النفوس، والوصول إلى مكنوناتها ومعرفة المُضمر لدى المرء. تصوّر أن أصدقاءك. وزملاءك يتوصّلون إلى معرفة ما في نفسك! في مثل هذه الحال تتكشف النوايا وتسقط الأقنعة. ويذوب الثلج الذي يحجب ما تحته، وقد يؤدي ذلك إلى تفسّخ الألفة والمودّة بين الكثيرين..
معرفة المكنونات
لذلك تصعب معرفة المكنونات، وهذا شكل من أشكال دفاع العلاقات الإنسانية عن ذاتها من خلال دفاع النفس عن مكنوناتها. وأحسب أنّ الفلاسفة، ومنهم سقراط، يدركون صعوبة معرفة المرء نفسَه، أمّا من يتوهّم أنه يعرف نفسه فهو الإنسان البسيط الذي يظنّ أنّه أحسن الناس أخلاقاً وأقربهم إلى الفضائل. وبرغم ذلك تبقى معرفة النفس قضية فلسفيّة قائمة. لأنّ الفلسفة نوع من التحدّي، فهي تبحث في المجهول وتسعى إلى كشف المخبّأ، ولكنها – كغيرها من مجالات المعرفة – لا تصل إلى النهايات، فالنهايات غير موجودة أصلاً. ولا سقفَ للمعرفة كما لا سقف للتطوّر والتقدّم.
لقد ربط سقراط الفضيلة بالمعرفة. وتبعه في ذلك آخرون، فهل هذا صحيح واقعيّاً؟ الحياة تقول إنّ هذا الربط ليس عامّاً أو دائماً، وكثيراً ما توضع المعرفة في خدمة الرذائل والشرور، وكثيراً ما توظّف المعارف في خدمة مصالح فئات معيّنة قد تكون متعارضة مع مصالح المجتمعات، ولعلّ الاستخدامات المتنوّعة للمعارف العلميّة الفيزيائيّة والكيميائيّة تؤكّد ذلك. ويدلّ هذا على أنّ الإنسان قد يعرف الشرّ ويفعله، ويعرف الخير ويتجنّب فعله انطلاقاً من مصالحه.
أمّا الفضيلة فهي نسبيّة، تتفاوت مضامينها وتجلّياتها من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى زمن برغم وجود ثوابت في تسمياتها. فالصدق فضيلة في عُرف الناس على اختلاف مجتمعاتهم وأزمانهم، غير أنّ إخفاء معلومة ما قد يكون مفيداً في تجنّب أذىً أو ضرر. والاحتشام فضيلة، غير أنّ صورَه ومحتوياته تتباين بتباين الزمان والمكان. وكذلك الفضائل الأخرى. وبرغم هذه النسبيّة، فإنّ الفلسفة حين ترفع راية الفضيلة تكون مخلصة لمهمتها الاجتماعيّة والعقليّة السامية، فهذه الراية هي راية الفلسفة ذاتها.
لمزيد من الأخبار تابعونا على قناة التلجرام: العراق أولا