قضية مدهشة!.. قصة ’القرصان الإلكتروني’
تتعدّد قصص القرصنة ويزداد ضحاياها يوماً تلو الآخر، مما يجعلها حوادث تكاد تكون اعتيادية. إلا أن قضية مدهشة وقعت أواخر الثمانينات من القرن الماضي ألقت الاضطراب في قلوب مشاهدي محطتي WGN-TV وWTTW الأمريكيتين، وملأت أذهان القائمين عليهما بالذهول الذي لا يزال يرتسم حتى اللحظة على وجه كلّ من يعاين ذلك الموقف!
قرصنة لا سابق لها!
في الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1987، نحو الساعة التاسعة والربع مساءً، وبينما كان أهالي شيكاغو يتابعون تغطية دان رون Dan Rohn لأخبار الرياضة على محطة WGN-TV المحلية، تحوّلت الصورة فجأة إلى سوادٍ دام نحو 10 ثوانٍ، تَبِع ذلك بروز رجلٍ مفزع، غريب المظهر، يرقص بصمتٍ أمام الكاميرا بشعره الأشقر الذي يقارب الصفار، وبذلته الرسمية ونظارته الشمسية السوداء، رجلٌ سرعان ما عرف مشاهدو المحطة أنه يقلّد الشخصية التلفزيونية البريطانية الذائعة السيط: ماكس هيدروم Max Headroom.
لم يكن تجسيد القرصان لشخصية ماكس هيدروم موضع شكٍّ أو التباس، فلأول مقدّم برامج افتراضي يعتمد تكنولوجيا الكومبيوتر، شهرةٌ كبيرة حازها منذ ظهوره عام 1985 كـ Veejay (مقدّم أغانٍ ومنوعات موسيقية) على برنامج تلفزيوني بريطاني، حيث كان صوته الرقمي، وتعليقاته التهكّمية المتحذلقة حاضرة في الأذهان.
“إذا كنتم تتساءلون عمّا جرى تواً، فأنا أتساءل أيضاً!”.
هذا ما قاله رون بعد انتهاء تلك الحادثة التي دامت نحو 25 ثانية قضاها موظفو المحطّة يتأمّلون قناتهم وهي تتعرض للقرصنة على شاشات غرفة التحكم بلا حول ولا قوّة، حتى حول أحدٌ ما ترددات الإرسال وعاد البث إلى حالته الطبيعية.
انطلق العاملون في المحطّة بحثاً عن دلائل ضمن مبنى الإرسال ظنَّاً منهم أنَّ الفاعل قام بذلك من الداخل، ولكنّهم لم يوفّقوا في العثور على شيء، العمليّة أنجزت من مكان آخر! وبالتزامن مع ذلك، بدأ المحقّقون الفيدراليون البحث عن أية مؤشرات تقود إلى قرصنة محطة محلية بلا هدف معين ولا دافع واضح، لكنّهم لم يفلحوا في تقفّي أي أثر.
لكّن ذلك لم يكن كلّ شيء، وما كان مخبّئاً في جعبة من قرصن WGN-TV، أكثر غرابة ومدعاة للاضطراب، وكانت الضحيّة هذه المرّة محطّة WTTW التابعة لشبكة PBS، وشهود الحادثة كانوا متابعي حلقة “The Horror of Fang Rock” من مسلسل Dr. Who، الذي حصلت عملية القرصنة الثانية خلال بثّه.
يبقى الفاعل مجهولاً، ودوافعه خفية!
بعد مرور 28 سنةً على الحادثة، لا تزال النظريات والتفسيرات المختلفة تتنوع، وتبقى أهمّ التساؤلات التي فرضتها هذه القضية بنظر المحلّلين:
● من يقف وراء عمليتي القرصنة؟
● ما الآلية التي مكّنته من اختراق محطتين مختلفتين خلال ساعتين من الزمن لمدة فاقت 90 ثانيةً في المرة الثانية؟
يسود احتمال أن طلاباً جامعيين يدرسون في مجال الإعلام والبث في المدينة كانوا وراء هذه العملية، أو ربما موظفون لديهم لسبب ما رغبة بالانتقام من محطة WGN (البث لمدّة أطول على محطّة WTTW لا ينفي أن المحطّة الأولى هي المستهدفة أساساً، خاصّة أن “ماكس هيدروم” المزعوم ألقى تعليقاً تهكّمياً فيما يخصّ القناة).
يرجّح معظم المحلّلين أن الـ Hackers قاموا بفعلتهم من أحد المباني المرتفعة بقرب مبنى Hancock حيث تبث محطّة WGN، أو مبنى Sears Tower حيث تبثّ قناة WTTW، أو من إحدى الفانات، حيث وجّهوا إشارتهم الخاصّة مباشرة باتجاه مباني الإرسال، وسط تضارب في الآراء بين من يقول إن التفوّق على تقنيات إرسال المحطّة يتطلب معدّات وإمكانيات هائلة التكاليف، ومن يقول أن الأمر تمّ بواسطة إحدى الحيل غير المكلفة، لكنها من النوع الذي يحتاج خبرة ومعرفة واسعة.
رغم المساحة الواسعة التي احتلتها حادثة ماكس هيدروم ضمن نطاق الرأي العام، تبقى ملابسات هذا “الانتهاك الصريح للقانون الفيدرالي” -كما قال الناطق باسم WTTW أندرس يوكوم Anders Yokom – مجهولة، ولا تملك إدارة المحطتين ضحيتي القرصنة ولا السلطات الأمريكية سوى التخمينات، وليس لمن يبحث في أحداث هذه القضية ويغوص في تفاصيلها من جماهير الناس إلا الدهشة.
اختراقٌ ثانٍ أشدُّ وطأة
نحو الساعة 11:15 ليلاً، بعد ساعتين تقريباً من العملية الأولى، وقع الاختراق الثاني، ولكن هذه المرّة مع فارق واضح هو وجود الصوت والكلام، الذي كان غير واضحٍ لا من حيث جودة الصوت ولا من حيث المعنى الذي يقصده بطل هذه القصة عبر حركاته وكلماته المريبة، ودام المشهد هذه المرة دقيقة و22 ثانية.
وفي خضم الهذيان الذي أدلى به المجهول، ذكر اسم المعلّق الرياضي لفريق Chicago Bulls، تشوك سويرسكي Chuck Swirsky ، قائلاً: “أظن أنني أفضل من ذلك الليبرالي!”، ثم تلا ذلك هاتفاً: “Catch the wave!” أو “التقط الموجة”، وهو إعلان قديم لمشروب غازي!
ليبدأ بعد ذلك بدندنة موسيقى المسلسل الكارتوني Clutch Cargo الذي كان يعرض في ستينيات القرن الماضي، ذاكراً جملة “I still see the X”، “لازلت أرى الـ X”، في إشارة إلى الحلقة الأخيرة من المسلسل الكارتوني المذكور آنفاً والتي تحمل عنوان “Big X” أو “الـ X الكبير”..
“I just made a giant masterpiece for all the greatest world newspaper nerds”
“قمت للتو بعمل تحفةٍ لكلّ مهووسي أعظم صحيفة في العالم”.
في هذه الجملة التي ذكرها ساخراً، دلالة على محطّة WGN، الضحية الأولى للقرصنة، إذ تشكّل حروف اسمها نحتاً لعبارة World Greatest Newspaper التي ذكرها المجهول، وهي شعار سابق Slogan لجريدة The Chicago Tribune، التي تملك المحطّة.
تُقطع اللقطة فجأة، ليعود التصوير من زاوية أبعد قليلاً من سابقتها، يظهر فيها المجهول في لقطة جانبية وهو يتلقى ضربات كسولة على مؤخرته من امرأة واقفة على الطرف الآخر من الشاشة، وهو يصيح ويهتف بكلمات لا مغزى لها.
خلال لحظات سريعة، اختفى الرجل كأن مشهداً من فيلم سينمائي تم اقتطاعه عنوةً، وعادت إلى الشاشة مستجدّات الأحداث في مسلسل Dr. Who تنساب بسلاسة كأن شيئاً لم يكن!.
المصدر: عربي بوست