أسواق الشهادات
كتب حسب الله يحيى.. لم تعد سوقا واحدة؛ بل تحولت إلى أسواق عديدة، وبيوتات مختلفة، ومكاتب انيقة، واتفاقات فردية وجماعية متنوعة، تشغل الزمان والمكان!
تلك هي رسائل الماجستير واطاريح الدكتوراه وحتى أبحاث الترقيات التي بات من السهل جدا الحصول عليها، ما دامت هناك أموال طائلة تصرف، وأسواق مفتوحة للراغبين بأمجاد ووجاهات الشهادات العليا.
وفي الباب المعظم، وفي شوارع المتنبي وفي دكاكين الوزيرية وقريبا من الجامعة.. هناك عرض باذخ وطلب مستمر على اعداد المطلوب وانجازه على وفق المتفق عليه، حتى أن بعض هذه المكاتب/ الدكاكين، باتت تعلن عن نفسها بفخر وامتيازات عن طريق اللافتات ووسائل الإعلان المختلفة من دون حسيب ولا رقيب.
ولكي تتم العملية بسهولة وتكامل وأداء منظم، يتم الاتفاق مع المشرفين ومع المناقشين وعلى حسب المرسوم له، بعد أن غاب (الكابس الاكاديمي السري)، الذي كان يحضر جلسات مناقشة الرسائل والاطاريح في الجامعة.
وأصبح الامر سهلا وذلك بوجود (أساتذة) يقبضون و(طلبة) يدفعون، إلى جانب مواقع التواصل الاجتماعي، التي تسهم مساهمة فعالة في توثيق وتعميق وتطوير هذه الرسائل والأطاريح والأبحاث.
نعم..يحصل هذا في بغداد، نبض العراق العلمي والمعرفي والابداعي، من دون رقابة ومن دون إحساس ذاتي بالمسؤولية العلمية والوطنية والأخلاقية في المناقشات الاكاديمية، التي يفترض فيها الدقة العلمية والموضوعية والجدية في معرفة مدى مصداقية الطالب في دقائق وتفاصيل (منجزه العلمي)، حتى يتم اكتشاف السرقات والجهل المحكم التي يرافق هذه الرسائل، التي تضخ يوميا من دون مقاييس تحدد طبيعة هذه الرسائل والاطاريح ومستواها العلمي والمعرفي. من هنا باتت المعايير في الحصول على هذه الشهادات العلمية.. بلا علم، ولم تعد تحظى باحترام المجتمع، كما لم يعد اللقب العلمي يعني شيئا في الواقع العملي. غير أن بعض دور النشر الرسمية والأهلية على حد سواء، وعددا من أجهزة الإعلام والصحافة تنظر إلى هذه الأبحاث والرسائل والاطاريح الممنوحة بقدر من الإيثار، كونها تحمل لقب (دكتور) وتقدمها على سواها من الأبحاث والدراسات القيمة التي لا تحمل لقب (دكتور).
ومن خلال عملنا في فحص وتقييم وخبرة عدد من الكتب والأبحاث المراد نشرها من قبل هذه المؤسسة الرسمية أو دار النشر؛ تبينا أن هناك العشرات من هذه الرسائل التي حولها أصحابها إلى كتب وابحاث مستقلة، يراد إصدارها ونشرها بالصحف والمجلات؛ عندها وقفنا على كم هائل من الجهل العلمي والمعرفي والفكري والإعلامي واللغوي والاملائي والتعبيري..والتي لا يمكن أن ترقى إلى مستوى النشر، لتكون في متناول القراء.
هذا الواقع الملموس في القراءة المتأنية تجعلنا نتساءل وبثقة عالية في طرح هذه الأسئلة:
ـ كيف مرت هذه الرسائل والاطاريح على الخبير العلمي، والخبير اللغوي، والمشرف ورئيس ولجنة المناقشة، وما هي المعايير التي يتم فيها منح الطالب على وفقها درجة (الامتياز) أو (جيد جدا)، وهي اقل ما يقال عنها إنها فقيرة علميا وتنم عن جهل في تثبيت المعلومة، والانشائية والمعلومات الخاطئة؟
ـ ثم.. كيف يمكن لهذه الرسائل والاطاريح والأبحاث، أن تتخطى عتبات الجامعة ليتجرأ أصحابها ويتقدمون بها للنشر..؟
إن الجامعة وهي النبع العلمي المصفى والفكر النير واللغة السليمة؛ اذا كانت قد تخلت عن مهامها وبعض الأساتذة الذين تخلوا عن قيمهم في منح الشهادات بكل هذه السهولة وغير المسؤولة علميا واخلاقيا؛ ينبغي ألا تمر على مؤسسات ودور النشر الرسمية والأهلية والمجلات والصحف، لكي لا يكون الجهل والأمانة العلية أمام المتلقي، وحتى لا يتم اعمام الزيف على نطاق واسع، وبالتالي تضيع الكفاءات العلمية الحقة امام هذا الكم الهائل من الشهادات المفرغة من المحتوى، والتي ارتضى أصحابها اللقب وجاهة، بدلا من ان يكونوا رجال علم ومعرفة وأكاديميين، نحن أحوج ما نكون اليهم، لكي ينيروا الدروب التي نحياها في العلم والمعرفة السليمة والكلمات الحية والقيم النيرة، لا أن يتم إعمام الزيف والغش على نطاق المجتمع، بعد أن عبر وتخطى الحرم الجامعي، الذي يفترض ان يحمل وقاره وعلميته وجديته ورصانته كما كنا نعرفه ونثق فيه.