ذكاء… غير اصطناعي!!
كتب عامر ممدوح: يوماً بعد آخر، وإيقاع الحياة الاصطناعية يزداد علينا، والناس بين منبهر بالمنجز، وآخر قلق من النتيجة والمآل، وثالث فزعٌ من محاكاة الذكاء الاصطناعي لأفكار وأقوال وصور البشر، في قصة معقدة متشابكة الجزئيات والجزيئات!
والمشهد يغدو جزءاً أساسياً من الحياة المعاصرة التي تقدم لك كل التسهيلات بيد، ثم تهددك باليد الأخرى، وتحمل معها الشقاء المعاصر الذي لا يلقي بالمرء بسهولة على شواطئ الأمان.
ولكني أجد نفسي ناظراً إلى الجانب الآخر من الصورة، ذلك أن جل ما سيفعله هذا الذكي المصطنع ـ على اختلاف مخرجاته ـ هو ترديد ما يقوله الغير له، وهو وعاء لما يخزّن فيه، وأن ما سيعجزه ربما كثير بل أكثر مما سيستطيعه.
ليس ذلك تفاؤل ساذج، ولا فقدان للبصر، ولكنه تثبيت لموقع الإنسان الذي أراده الله في هذا الكون الذي نصوغ صورته ومعناه بأنفسنا وأيدينا، وحتى وإن غدونا على حافة الخطر أو وقعنا في كمائنه، فذلك لن يكون إلا نتاج مسيرنا!
الذكاء الاصطناعي لن يقوى على صناعة تاريخ لنا، مثلاً، لن يكتبه متجرداً، ولن يكون هذا الروبوت في عداد المؤرخين وحاملاً شروط الانتساب إليهم كما سجلها لنا العلامة ابن خلدون في مقدمته، وهو لن يقدر على رواية الحكاية، وحكاية الرواية، وقراءته وتفكيكه وتحليله كما ينبغي، مهما دوّن من مقالات أمليت عليه بكرة وأصيلاً!
وكل تلك الأجهزة المتطورة لن تقوى على صياغة هوية لنا، فذلك دون امتلاك قلوبنا لن يمكنه منحنا هوية تحقق معنى الانتماء، والولاء، وترسم ملامحهما بالشكل الذي تنصهر فيها كل الفئات، ثم تتجلى لاحقاً وطنياً وعربياً وإسلامياً وإنسانياً، فتلك أشياء لا تشترى!
بل.. هل يمكن لهذه الآلة الجرداء الصماء أن تحل محل امرؤ القيس وهو يخاطب ليلاه، أو محفوظ لما رسم عالمه بين القصرين أو السياب لما صدح لسانه بالحمد على الرغم من طول البلاء واستبداد الألم، أو حين تساءل وقد ملكه التعجب والاستغراب: أيخون إنسان بلاده؟ وعندما أنصت سمعه إلى الريح والموج وهما يصرخان به: عراق، عراق، ليس سوى عراق!!
فإننا لو جمعنا كل آلات الكون لن تقدر على ترجمة ذلك النبض والحسّ والشعور، وكل ما سيقدم لن يكون إلا مشاعر مصنعة ينصح وضعها في الأماكن الباردة، ويخشى عليها من الحرارة، وأي شعور تنشده بلا هذا اللهيب المستعر في الأنفس وبين الصدور؟!!
ويظل سؤال الغد يلح على الإنسان، ولهفة معرفة المجهول حاكمة باقية مهما اختلفت الأماكن والأزمنة، وهنا كذلك نقول أن المستقبل لن يكون إلا نتاج فعلنا، ولن تقوى أي آلة أو تطور اليوم إلا على تنفيذ ما نريد نحن، ولن يكون الوصول إليه دون عبور الحاضر الراهن، والنظر إلى الخلف باعتبار.
نحن بين الاعتبار بالأمس، وفعل الآن، أبناء بررة للغد المنشود، فذكاؤنا الذي زرعه الله لنا سيظل هو الأساس، يغذي بإمكانياته غير المصطنعة كل أداة اصطناعية وجدت لخدمة الإنسان وتنفيذ غاية الحياة، لا تدمير العوالم والأكوان، وكل فعل مؤذي مهما تغطى برداء الحضارة المزيفة إنما هو نكوص عن إنسانية الإنسان.
قد يقلق المرء على وظيفته، يحزن لتضاؤل الفرص، نعم وله الحق في ذلك، ولكن ليبقى الجميع على يقين بأن هذا الكون سيظل إلى أن يشاء الله هو ساحة الفعل وميدان الاختبار، وأنه مهما عتت الموجات المضادة، فلا بد من التسلح بالمزيد من الفطرة والإنسانية لمواجهة كل محاولات التزييف والمسخ والامتهان.