ساحة الميدان وغيرها
كتب عبدالأمير المجر: تشهد بغداد ومنذ أشهر حملة لبناء المجسّرات في أكثر من مكان، بقصد الحد من الاختناقات المرورية التي عطّلت الحياة تقريباً، وضغطت نفسياً على الناس، فضلاً على الوقت المهدور من يوم العمل وما تسببه من فوضى وتشوه لوجه بغداد..
وفي العموم هناك استبشار بانتهاء أكثر من مجسّر قريباً سيضع حداً لمعاناة البغداديين.. لكن قبل انطلاق هذه الحملة، كنا نأمل أن تكون هناك حملة أخرى تهدف إلى إعادة الروح لبعض الأماكن الحيوية في بغداد، والتي تعيش فوضى غير مسبوقة مع قلة النظافة.. من أبرز تلك الأماكن ساحة الميدان الشهيرة، التي كانت تضج بالحركة والنظام، الذي يضبط إيقاع حركة الحافلات المنطلقة منها، ونظافة المحال التجارية والمطاعم من حولها.
وكذلك مدخل شارع الرشيد فيها، والذي كانت بناياته التراثية، قبل أكثر من عقدين محتفظة بحيويتها وجمالها قبل أن تصبح اليوم أطلالاً.. ولعل الصور الأرشيفية لهذا المكان المميز تذكرنا بأناقة الحياة البغدادية المدنيّة فيه، كمقاهي أم كلثوم وحسن عجمي والزهاوي، وسوق الهرج، بالإضافة إلى محال المرطبات وأبرزها محل الحاج زبالة وغيره من المعالم، التي يقصدها الناس من داخل العراق وخارجه، كونها من أبرز المعالم السياحية في بغداد.
بصدق أقول، كلما ذهبت إلى شارع المتنبي يوم الجمعة، وقد صار ذهابي إلى هناك قليلاً مؤخراً، أشعر بالكآبة ويتملكني إحباط من امكانية عودة الحياة المدنيّة لبغداد كسابق عهدها، والسبب هو الفوضى والأوساخ التي تعج بها ساحة الميدان وتهاوي الأبنية التراثية من حولها، ناهيك عن البسطات التي اكتسحت المكان وتمددت لتصل باب وزارة الدفاع، حيث اختفت تماماً الأرصفة التي افترشتها أشكال مختلفة من البضائع والمواد المستعملة، التي غيّبت المكان تماماً وشوهت معالمه بشكلٍ مقزز ومقرف، ولا يتناسب مع اسم بغداد وجمالها، الذي ما زالت تحتفظ به على الرغم من كل ما حصل.
السؤال الذي يطرح نفسه؛ إلى أي حدٍ يمكن أن نبرر لمثل هذه الفوضى بمقولات لا تنطوي على معانٍ واضحة، مثل عدم قطع أرزاق الناس وغيرها من العبارات، التي صارت أقنعة أخلاقية لممارسات مؤذية ومشوهة لوجه بغداد، وما هي السلع والأشياء التي تعرض وتسد الشوارع تقريباً ومدى حاجة الناس إليها؟ بصراحة يشعر المرء وهو يمر على تلك البسطات وكأنه يسير بين مزابل وأنقاض تثير القرف.. نعم، أن البعض استمرأ هذه الفوضى، وصار يراها حالة طبيعية مثلما استسلم الناس، الذين باتوا يرون هذه المناظر بشكل يومي ومنذ سنين حتى أصبحت لا تثيرهم، وكأن قدر البغداديين أن يغيروا نمط حياتهم، ليتكيّف مع كل حالة شاذة جديدة لحين الاعتياد عليها..
لقد بلغ الأمر حداً لا يطاق، ووجه بغداد الجميلة تشوّه بشكل غير مسبوق، ولم يتخيله قبل عقدين من الزمن أكبر المتشائمين، وإن سكوت الجهات المعنية على ذلك مثلما سكتت على فوضى الأسواق في أغلب مناطق بغداد، لا سيما الشعبية، حيث فقدت شكلها المعروف، الذي كان يشرح النفس وحلَّ محلها شكلٌ جديد، بدأ مع حصار التسعينيات لكنه تفاقم بشكل غير معقول بعد العام 2003، بينما كنا نعتقد أن الوضع سيتحسن، وصارت فوضى بناء المحال مرافقة لمكبرات الصوت، التي تصم الآذان لتغني الباعة عن المناداة على بضائعهم!..
نعم، بغداد التي تشهد الآن لمساتٍ جميلةً ومجمعاتٍ سكنيَّة فخمة ومرافق خدمية وسياحية يقوم بها القطاع الخاص، تشهد أيضاً غياباً للنشاط البلدي، الذي يعدُّ من أهم الحلقات، التي تجعل المدن أما متوهجة أو منطفئة.. وللأسف هذا القطاع ليس بمستوى بغداد ولا يقدر حجم التحديات التي تواجهها.