رحلة إبراهيم مترجم ودبلوماسي إلى أحد مسؤولي العثمانيين

في عام 1683 حاصرت الدولة العثمانية فيينا  عاصمة النمسا في محاولة منها لضمّ جزء من أراضي النمسا تحت رايتها، ولعقاب الإمبراطورية الرومانية المقدسة؛ إذ أخلّت بمعاهدتها مع الدولة العثمانية، وكانت تقضي بعدم بناء قلاع في المجر، ولكن على إثر هذا الحصار كوّن ملك بولندا يوحنا الثالث سوبيسكي قوة لمهاجمة العثمانيين، والتي هزمت القوات العثمانية. يمكنك القراءة بالتفصيل عن حصاء فيينا عام 1683 من هنا.

 

في ذلك التوقيت كانت بعض أراضي المجر تقع ضمن حدود سيطرة الدولة العثمانية. كان ينتشر في المجر، آنذاك مذهب بروتستانتي توحيدي لا يؤمن بألوهية النبي عيسى. ومع وقوع المجر تحت قبضة النمسا اضطهدت القوات النمساوية الكاثوليكية الطائفة المسيحية المجرية التي تختلف معها في العقيدة المسيحية. ومن قلب تلك الأحداث جاء إبراهيم متفرقة المجري الذي انتقل إلى إسطنبول وتحوَّل إلى الإسلام، وأصبح أحد قادة الدولة العثمانية.

إبراهيم متفرقة
إبراهيم متفرقة/ uskudar.edu.tr

نشأته واختلاف الروايات حوله 

وُلد إبراهيم متفرقة عام 1674 في مدينة قولزوار في المجر، ونشأ في بيت بروتستانتي يؤمن بتوحيد الخالق وعدم إشراك المسيح معه في ألوهيته، ولهذا كان المذهب التوحيدي يختلف عن الكاثوليكية والبروتستانتية اللوثرية والكالفينية المنتشرة في أوروبا اختلافاً جذرياً، مما تسبب في صراع شديد بينهم، وقد اُتُّهم هذا المذهب من قبل أصحاب المذاهب الأخرى بأنه أقرب إلى المسلمين من المسيحية.

وتذكر الروايات المسيحية عن الراهبين دوسوسوار وقره جون أنّ “متفرقة” أُسر من قبل الجيش العثماني في عام 1693، ونقل لإسطنبول، وهناك وقع تحت يد رجلٍ ظالم مما جعله يعيش فترة طويلة من البؤس والضنك، فما كان منه إلا أن أعلن إسلامه ليتخلص من حياة البؤس هذه.

إلا أن الباحث نيازي بركس قدّم رواية أخرى مفادها أنه مع انتهاء الحكم العثماني للمجر عام 1688 وانتقال الحكم فيها للكاثوليك الذين نكلوا بالبروتستانتيين خاصة أصحاب المذهب التوحيدي، حدد متفرقة – الذي شهد هذا الصراع – موقفه كما حدَّد الكثير مثله وقرروا اللجوء للدولة العثمانية ليستطيعوا العيش بعقيدتهم، وهذا لمّا وجدوا أنهم لا يستطيعون تحمُّل الضغوط الكاثوليكية الواقعة عليهم.

كما يذكر نيازي بركس بصدد وقوع متفرقة أسيراً في يد القوات العثمانية، أن هذا قول عارٍ من الصحة، لأن المجر كانت في صفّ الدولة العثمانية ضدّ النمسا، فلا معنى أو منطق في أن تأسر الدولة العثمانية أتباعها أو المنخرطين معها في حلف.

أمّا دعوى أنه أسلم للتخلص من عبوديته لرجل ظالم، فيدحضه ما كتبه متفرقة نفسه في كتابه (رسالة إسلامية) ودفاعه عن الإسلام، مما يظهر اقتناعه بالإسلام كما يُظهر الكتاب تشرب متفرقة للعلوم الإسلامية أيضاً.

إبراهيم متفرقة دبلوماسياً عثمانياً

لكونه ملماً باللغة الفرنسية واللغة العثمانية بجانب لغته الأم المجرية؛ عُين متفرقة مترجماً لدى الباب العالي عام 1715 ودخل الحياة السياسية العثمانية منذ ذلك الوقت. ولقدرة متفرقة على التفاوض وممارسة المهام الدبلوماسية، أصبح مستشاراً ومبعوثاً خاصاً للسلطان محمود الأول، وأجرى مفاوضات مع النمسا وروسيا في نفس عام تعيينه سنة 1715.

وفي عام 1716 أُرسل إلى بلغراد في المجر ليكون مترجماً للجانب المجري ومُفَوضاً عنهم، والذين اجتمع رأيهم على نية الهجوم على النمساويين. وفي تلك الأثناء وقع ملك المجر أسيراً لدى النمساويين، لكنه فر إلى بريطانيا ثم إلى فرنسا ثم إلى إسطنبول طالباً المساعدة من العثمانيين لاسترجاع ملكه؛ فأقام 17 عاماً في مدينة تكرداغ التركية وعيّن متفرقة مترجماً خاصاً له.

أدار متفرقة أيضاً جلسة المباحثات الخاصة بتسليم قلعة أورشوا نيابةً عن الحكومة العثمانية مع المجريين لتسليم القلعة للقوات العثمانية، كما ساهم في العديد من المباحثات الدبلوماسية، وهكذا اعتمدت عليه الدولة العثمانية في إجراء الكثير من المفاوضات والمعاهدات السياسية، نظراً لما كان يتمتع به من إتقان لغات عديدة، إلى جانب إلمامه بالسياسة الخارجية وبخاصة منطقة أوروبا الوسطى.

إنجازه الأكبر.. إقناع السلطان بإصدار فرمان لإنشاء المطبعة

كثير من الباحثين الغربيين اعتبروا إبراهيم متفرقة قائد “التنوير العثماني” وصاحب الفضل فيه، فإلى جانب كونه متعدِّد المواهب في الترجمة والعمل الدبلوماسي والتأليف، كان إدخال الطابعة للدولة العثمانية بمثابة الثورة الثقافية التي يعتبر البعض أنّها مدت في عمر الدولة.

كانت الدولة العثمانية تُحرِّم دخول الطابعة في أراضيها إلى أن أقنع إبراهيم متفرقة السلطان بأهمية دور الطابعة في حياة الأمم.

ويذكر الدكتور سهيل صابان في كتابه “إبراهيم متفرقة، وجهوده في إنشاء المطبعة العربية ومطبوعاته” أنّ بدايات ممارسة متفرِّقة للطباعة كانت أيام دراسته في الكلية التابعة للكنيسة في مدينة قولوزوار المجرية. حيث إن متفرقة تعلم فن الطباعة على يد النحّات والطابع الشهير ميخائيل مستوتفالوسي في كلية اللاهوت وذلك في عام 1689م.

وبسبب علاقته الجيدة وخدمته للحكومة العثمانية؛ عرض متفرقة مشروعه على بعض الوزراء الذين اقتنعوا بأهمية المشروع، لكنّهم رأوا أنه صعب التحقيق في ذلك الوقت، لكنّ السفير العثماني المبتعث إلى فرنسا جلبي محمد أفندي وابنه سعيد أفندي قررا أخذ الفكرة من متفرقة لعرضها على الصدر الأعظم ليعرضها بدوره على السلطان.

على ذلك قدم متفرقة للسفير جلبي رسالته الشهيرة المعنونة بـ(وسيلة الطباعة) في عام 1726م، إلا أن علامات التردُّد والرفض ظهرت في بداية الأمر، وهو ما دفع متفرّقة لإرسالة الرسالة مرة أخرى جدَّد فيها ما كتبه، وأضاف إليها طلباً بإصدار فرمان من السلطان وفتوى من شيخ الإسلام، تسمح له بطباعة الكتب.

الدولة العثمانية
السلطان العثماني أحمد الثالث الذي وافق على إدخال المطبعة في الدولة العثمانية/ Flickr

وفي نفس العام الذي أرسل متفرقة رسالته فيه، أصدر السلطان أحمد الثالث فرماناً “أنه أجاز لكلٍّ من إبراهيم متفرقة وسعيد أفندي ممارسة مهنة الطباعة وإنشاء المطبعة، لكونها تعمل على نشر العلوم والمعارف بين أفراد الأمة الإسلامية وإصدار كتب علماء الدين المبين وحفظها وصيانتها”.

وجاءت فتوى شيخ الإسلام وتأييد العديد من العلماء مصاحباً لفرمان السلطان، إذ اعتبروا أن هذا يعمل على تقليل سعر الكتب أمام مريديها وطلاب العلم وأن هذا يحمل خيراً كثيراً.

إنشاء أول مطبعة عربية تركية.. وصدور أول مطبوعة 

طبقاً لما أورده الدكتور صابان في كتابه بدأ متفرقة ومعه سعيد أفندي بإنشاء شركة تقوم على إعداد الآلات والأدوات اللازمة للطباعة، وتأسست المطبعة في منزل متفرقة وذلك بعد عمل متواصل دام سنتين تقريباً.

تحمَّل سعيد أفندي النواحي المالية فيما تولى متفرقة الإدارة ومتابعة الأمور الفنية وبهذا خرجت أول مطبعة في الدولة العثمانية.

طُبع في زمن متفرقة 17 كتاباً مجموعها 23 مجلداً في التاريخ واللغة والجغرافيا والعلوم الطبيعية الأخرى، أما عن عدد النسخ المطبوعة في زمن متفرقة فكانت 13200 نسخة.

بدأت المطبعة أول ما بدأت بطباعة قاموس “وان قولي” وذلك – كما ذكر متفرقة – بسبب حاجة الكثير من طلبة العلم له، إذ إنه قاموس لغة يتكون من مجلدين كبار مما يُصعّب مهمة استنساخه، وذلك لأهميته الكبيرة في ميدان العلوم، وعلى إثر ذلك تلقى الكتاب حفاوةً وإقبالاً كبيراً.

وفي عام 1732 قام متفرقة بتأليف كتابه (أصول الحكم في نظام الأمم) وذلك استجابةً لطلب السلطان محمود الأول للبحث “عن أسباب تقدم الكفار على أهل الإسلام، والوسيلة لتقدم المسلمين عليهم” كما وصف السلطان.

ويذكر متفرقة أن السبب وراء تأليفه للكتاب هو البحث عن الأسباب التي أدت إلى دخول الخلل في نظام الدولة العثمانية، مقارنةً بتقدُّم الدول الغربية، والأشياء التي ينبغي على الدولة اقتباسها من الغرب.

ذكر متفرقة الأنظمة السياسية الموجودة في العالم آنذاك، وتعرَّض في الكتاب لأهمية التجارة في حياة الأمم، وتوسيع نفوذ التجارة الغربية، واكتشاف قارة أمريكا؛ لذا اعتبرته العديد من المصادر التاريخية أنه اقتصادي وجغرافي أيضاً.

ذكر متفرقة في الكتاب أيضاً الأنظمة العسكرية الغربية الجديدة في ذلك الوقت وأجرى بينها مقارنة وبين الجيش العثماني. كما تعرَّض لأسباب تفوُّق الروس وتمسكهم بأسباب القوة العسكرية، وذكر أن الدولة العثمانية إن لم تتمسك بهذه الأسباب فإنها محكوم عليها بالزوال والاضمحلال.

وفي 1743 مرض إبراهيم متفرقة وتوقَّفت المطبعة عن العمل حتى توفي في 1745 عن عمر يناهز 70 عاماً. بعد وفاة متفرقة توقفت المطبعة عن العمل لمدة سنتين، ثم بعد محاولات القاضي إبراهيم، خليفة متفرقة الذي دربه على الطباعة؛ صدر فرمان من السلطان محمود الأول يجدد فيه الإذن باستئناف المطبعة، لكنها لم تدم طويلاً حتى توقفت مرة أخرى.

وفي عام 1754 في عهد السلطان عثمان الثالث صدر فرمان آخر يؤكد الفرمانات السابقة، فطُبع “وان قولي” الطبعة الثانية وذلك لنفاد نسخ الطبعة الأولى، كما طبعت عدة كتب أخرى، ولكن ليس بنفس جودة الكتب أيام متفرقة، إذ تآكلت حروف الطباعة وطرأ على الكتب السهو والأخطاء الإملائية، ثم تعطلت المطبعة تعطلاً كاملاً، وبذلك أُغلقت المرحلة الأولى من حياة المطبعة التي أنشأها متفرقة.

المصدر: عربي بوست

زر الذهاب إلى الأعلى