الموضوعية وأخلاقيات الصحافة في العصر الرقمي
كتب معتز الخطيبي: عالجت في مقال سابق سؤالًا مفاده: “هل يمكن الحديث عن إعلام أخلاقي؟” والثلاثاء الماضي دُعيت للحديث -ضمن المنتدى الذي نظمه معهد الجزيرة للإعلام- عن “أخلاقيات الإعلام في العصر الرقمي”، وهي مناسَبة لاستكمال ما بدأته في المقال السابق، خصوصًا مع الإشكالات الأخلاقية والمهنية التي فرضتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة في مايو/أيار 2021 على بعض المؤسسات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي.
وقد استوقفتني مؤخرًا 4 أخبار تتصل بهذا الموضوع:
- الأول: أن رسالة سُربت من شبكة “سي إن إن” (CNN) وجّهت المراسلين إلى إدراج اسم حماس كلما ذكروا عدد القتلى والمصابين نتيجة القصف الإسرائيلي على غزة، فـ”عندما نذكر آخر أرقام القتلى والمصابين يجب أن ننسبها إلى وزارة الصحة في غزة، ونحتاج إلى القول إن الوزارة تُشرف عليها حماس”، ويبدو أن هذا التوجيه يهدف إلى التشكيك في مصداقية الأرقام؛ عبر التصريح بأنها صادرة عن “حماس” التي تزعم إسرائيل أنها تشن الحرب عليها لا على الفلسطينيين، ومن ثم تغدو الأرقام مشكوكًا فيها؛ لمجرد أنها ليست صادرة من “جهة مستقلة”؛ وهو ما يطرح السؤال: لماذا لا يمكن أن تُعتبر هذه الأرقام صادرة عن “مصادر رسمية”؟ وهل تُعامل الأخبار الصادرة عن الجانب الإسرائيلي بالطريقة نفسها؟
- الثاني: أن بيانًا سُرّب أيضًا عن هيئة إذاعة صوت ألمانيا أو دويتشه فيله (DW) تمنع فيه الهيئة مراسليها ومحرريها من تغطية الفصل العنصري واضطهاد الفلسطينيين أو السماح بأي انتقاد لإسرائيل، وورد ذلك في دليل جديد تم إرساله إلى فريق العمل خلال الحرب الأخيرة؛ ويوضح أنه لا يمكن السماح بأي تشكيك في شرعية إسرائيل والدولة اليهودية؛ لأن على برلين مسؤولية خاصة تجاهها؛ بسبب الهولوكوست، وأي محاولة في هذا الإطار تندرج ضمن معاداة السامية.
- الثالث: أن إفادات كثيرة عبر صفحات فيسبوك أوضحت أن إدارته حظرت الكثير من التعليقات والحسابات الصادرة عن فلسطينيين أو المؤيدة لهم. وفي أثناء الحرب الأخيرة، وتحديدًا في 14 مايو/أيار 2021، اجتمع وزير العدل الإسرائيلي بيني غانتس (ويشغل أيضًا منصب وزير الدفاع) مع المديرين التنفيذيين لشركتي فيسبوك وتيك توك، ومديري السياسات العالمية العامة للشركتين، وطلب منهم الشروع -بشكل عاجل- في إزالة المحتوى الذي يحرض على إسرائيل، وتحدث غانتس عن أن بلاده “تمر بحالة طوارئ اجتماعية وتنتظر منكم المساعدة”. في إشارة إلى السلطة المتشكلة لوسائل التواصل الاجتماعي. وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية “بأن المسؤولين تعهدوا بالتعاون وسرعة التصرف بفعالية؛ لمنع التحريض عبر مواقعهم”، وسلوك فيسبوك أثناء الحرب الأخيرة يؤكد هذا المعنى؛ الأمر الذي دفع ناشطين إلى إطلاق حملة ضد فيسبوك لوقف ما أسموه “الإعدام الرقمي”.
ومن المفيد أن سياسة فيسبوك هذه ليست جديدة، فقد نشرت صحيفة الإندبندنت (The Independent)
بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2016 تقريرًا يوضح أن إدارة فيسبوك “استهدفت عمدًا” حسابات فلسطينية -بعد اجتماع مع الحكومة الإسرائيلية في سبتمبر/أيلول 2016- تحت ذريعة “معالجة خطابات الكراهية والتحريض”. - الرابع: أن الصحفية اليهودية الشابة إيميلي وايلدر تم فصلها من وكالة أسوشيتد برس خلال الحرب الأخيرة؛ لأنها تدافع عن حقوق الفلسطينيين، وأصدرت بيانًا توضح فيه تفاصيل تجربتها.
من غير الممكن الحديث عن موضوعية كاملة أو تامة في مجال الإنسانيات؛ لأنه لا وجود لشخص متجرد من كل أفكاره ومشاعره، وغير متفاعل مع موضوعه بأي نوع من أنواع التفاعل؛ فهناك انحيازات إنسانية طبيعية، ومشاعر وعواطف، وانتماء مكاني وديني، وهناك أفكار وأيديولوجيات تحرك البشر وتؤثر في تقويماتهم وأفعالهم.
تعيدنا هذه الأخبار الأربعة إلى مفهوم مركزي، هو الموضوعية، وهو مبدأ تتفق عليه مواثيق أخلاقيات الصحافة والإعلام التي تعتمدها مؤسسات وتشكيلات إعلامية كبرى في العالم. ومفهوم الموضوعية إشكاليّ في الأصل، ولكنه في العصر الرقمي بات أكثر تعقيدًا؛ لجهة أن العالم الرقمي يوفر سلطة أوسع قادرة على التحكم والمنع عبر الخوارزميات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، ولجهة أن العالم الرقمي أو بعض العاملين فيه قد يتوهمون أو يوهمون أن استخدام مثل تلك التقنيات يوفر شرطي الموضوعية والعلمية؛ بحجة أن الذكاء الاصطناعي مسألة تقنية منزهة عن التحيز البشري. يضاف إلى ذلك أن الشركات التي تتحكم في تقنيات الذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل والمؤسسات الإعلامية الكبرى تنتمي إلى جغرافيا محددة ومحدودة جدًّا، ومن ثم فلا يمكن الحديث عن توازن في السياسات الخاصة بمحاربة خطابات الكراهية والتحريض، وليس ثمة معايير عادلة وشفافة تطبق على مختلف الأطراف، وعلى صنوف المحتوى، ففي حالة فلسطين مثلاً، ليس ثمة ما يفيد بأن المعايير التي تُطبق على المحتوى العربي هي نفسها التي تطبق على المحتوى الإسرائيلي.
لنرجع إلى المفهوم المركزي في هذا النقاش، وهو الموضوعية (Objectivity)، وهو مفهومٌ يقابل الذاتية (Subjectivity)، ويمكن أن نميز هنا بين نمطين من التفكير في هذا المفهوم:
- النمط الأول: التفكير الفلسفي، حيث مفهوم الموضوعية هو محل خلاف وانتقاد، وطرأت عليه تطورات عدة؛ ففي القرن 17 أُطلق الذاتي على السمات الذاتية للموضوع بمعزل عن الإدراك، وأُطلق الموضوعي على الشعور الذاتي للمراقب، ومع ديكارت بدأ ربط الموضوعية بالأنا المُدْرِكة، ولكن مع كانط وأغلب المفكرين الغربيين صارت ظواهر العالم منقسمة إلى نوعين: ظواهر موضوعية بمعنى أنها توجد خارج الذهن، وظواهر ذاتية بمعنى أنها تعتمد على الذهن، وهذا يعني أن الموضوعي يحيل إلى وجود الشيء في ذاته مستقلًا عن الناظر إليه.
ويرى نقاد الموضوعية أنه ما من ملاحظة للشؤون الإنسانية يمكنها أن تتحرر من المقاييس الإنسانية التي تتحكم في عملية الملاحظة نفسها، ومن ثم يرى بعضهم أن الموضوعية -في الواقع- هي المصطلح الذي يعبر عن صور التوافق المعقدة المتبادلة بين الذوات المختلفة، والتي تحصل مع تراخي الزمن، ولكن هذا التصور من شأنه أن يقود إلى النسبية؛ لأنه سيعني أنه لا وجود للشيء في ذاته في الظواهر الإنسانية، وهو خلاف الواقع. - النمط الثاني: التفكير العملي، وهنا نجد أن ثمة ما يشبه الإجماع اليوم على أن الموضوعية هي مرادف لكلمات مثل: الحيادية، وعدم الانحياز، والتجرد. وتأتي أهمية الموضوعية من أن ثمة اعتقادًا بأن المراقب الموضوعي يستطيع أن يقدم رواية موثوقًا بها عن الأحداث؛ لأنه لا مصلحة له في نتيجتها (أي ليس طرفًا فيها)؛ لأن دوره دور المراقب.
ولكن مفهوم الموضوعية بحاجة إلى رؤية نقدية على مستويين: نظري وعملي.
فعلى المستوى النظري، من غير الممكن الحديث عن موضوعية كاملة أو تامة في مجال الإنسانيات؛ لأنه لا وجود لشخص متجرد من كل أفكاره ومشاعره، وغير متفاعل مع موضوعه بأي نوع من أنواع التفاعل؛ فهناك انحيازات إنسانية طبيعية، ومشاعر وعواطف، وانتماء مكاني وديني، وهناك أفكار وأيديولوجيات تحرك البشر وتؤثر في تقويماتهم وأفعالهم.
وبناء على ما سبق، فإن الموضوعية في مجال الصحافة مسألة إشكالية، ويمكن توضيح تعقيداتها من خلال 3 جهات:
الجهة الأولى: العلاقة بين الذات والموضوع، وهنا يمكن أن نميز بين 3 أنواع:
- القرب والبعد المكاني، وهو ضروري في العمل الصحفي لمعاينة الواقع بدقة، ولكننا قد نختلف حول “الانتماء للمكان” وأثره في دقة الرواية وموضوعيتها؛ فمن جهة نجد أن الانتماء إلى المكان يُقحم عوامل وجدانية وهوياتية قد تؤثر في سلوك وتقويمات المراقب، ولكن من جهة أخرى، فإن المنتمي إلى المكان يَفضُل الزائر للمكان من حيث إن الانتماء قد يجعل صاحبه أَخبرَ بالمكان وبتفاصيله وتاريخه.
- القرب والبعد الإنساني، كوجود روابط اجتماعية وعاطفية بالموضوع، وغالبا ما يُنظر إلى هذا القرب على أنه مُخِلٌّ بالموضوعية؛ لأن هذه العلاقات تنطوي على “انفعال” ما، وثمة افتراض بأن الانفعال يؤثر على الدقة ونزاهة الحكم.
- القرب والبعد الفكري، ففي الدراسات الاستشراقية -مثلًا- ساد اعتقاد بأن المسلم حين يدرس الإسلام فإن أحكامه ليست موضوعية؛ لأنه يدرس ذاته بشكل ما، ولكن هذا المنظور يفترض أن غير المسلم حين يدرس الإسلام منزه عن التحيزات والأغراض، في حين أن الدارس نفسه قد يكون متحيزًا ضد الموضوع المدروس، أو لديه نفرة واستيحاش منه. وهذا الأمر ينطبق على أصحاب الأيديولوجيات من يسار ويمين، وعلماني وإسلامي وغير ذلك، فمقابل التحيز للموضوع هناك التحيز ضد الموضوع، ومقابل الميل للموضوع هناك النفرة منه، وليس أحد الموقفين بأفضل من الآخر. وفي المسائل السياسية والثقافية لا يمكن افتراض النزاهة المسبقة في (مجرد) البعد عن الموضوع؛ لأن ثمة تحيزات ثقافية فرضتها عوامل عدة كالتحيز – مثلاً – ضد كل ما هو مسلم، أو التحيز لكل ما هو يهودي بحجة معاداة السامية، وكلاهما موجود في وسائل الإعلام الأوروبية بنسب متفاوتة، ويرتفع في دول مثل ألمانيا وفرنسا.
الجهة الثانية: ثمة علاقة وثيقة بين الإعلام والسياسة والمال
فالمؤسسات الإعلامية ليست جمعيات خيرية ولا مؤسسات رسالية فقط؛ فهي خاضعة لمصالح مالكيها ومموليها، ومن ثم لا يمكن فصل الإعلام عن سطوة السياسة والمال؛ لأن الصحافة سلطة، وإنْ حصل التفاوت في الدرجة فيما بين وسائل الإعلام المختلفة ضمن سلّم العمل المهني.
الجهة الثالثة: العمل الصحفي والإعلامي يندرج ضمن الفعل الثقافي
بل إنه يشكل ساحة مهمة لتجليات هذا الاختلاف الثقافي الواسع وإن اتحدت قواعد المهنة وأخلاقياتها من حيث الجملة، ولذلك فإن تعريف مهنة الصحافة بأنها نقل الحقيقة أو تصوير الواقع، هو قول مجرد؛ لأن تصورات ما هو حقيقة وما هو واقع تختلف حسب الجغرافيا وبناء على تحيزات ثقافية مستترة أو ظاهرة تجسد اختلاف منظومات القيم الحاكمة (كالموقف من الإسلام، والصور النمطية للسود والمسلمين، والموقف من المهاجرين)، ويشتد هذا في ظل النزاع والصراع والهيمنة.
تأمل مثلا التغطية الخاصة بأخبار المقاومة الفلسطينية أو بالموقف من أي حركة سياسية تقوم على أساس إسلامي، أو بفكرة تطبيق الشريعة. وقد أوضحت في مقالي السابق المشار إليه في مطلع هذا المقال أن الفعل الثقافي يؤثر في رؤية الواقع وروايته؛ وميزت هنالك بين 3 مفاهيم: وجوه الواقع، وأجزاء الواقع، ومعايير تحديد المهم والأهم من تفاصيل الواقع.
أما على المستوى العملي، فلو اتفقنا على معنى المراقب المتجرد/الموضوعي، فإن الإشكال سيطرأ في ميدان التطبيق والتنزيل على الواقع، وحول تنزيل هذا المعنى على الأفراد والمؤسسات الصحفية، وما إذا كان هذا المراقب أو ذاك موضوعيًّا أو لا، وهذا الاختلاف ملحوظ جدًّا في ميداني السياسة والصحافة.
ومرد هذا الاختلاف إلى جملة عوامل:
- الاختلاف الأيديولوجي: كالانقسام بين يسار ويمين، وهي ثنائية تتحكم في النظر إلى وسائل الإعلام الأميركية -مثلًا- بين حزب الجمهوريين وحزب الديمقراطيين، أو ثنائية علماني وإسلامي التي تسم العالم العربي.
- الاختلاف الثقافي حول القضايا محل التغطية: كاختلاف النظر إلى الواقع وزاوية النظر إليه، والتي تبدو أحيانًا في التحيز لقضايا وأولويات توافق العقل الغربي المتحكم في وكالات الأنباء ووسائل الإعلام مثل قضايا النسوية (رغم أننا نقر بأهمية وأولوية قضايا المرأة) والشذوذ الجنسي والختان وغيرها، مقابل ثانوية قضايا أخرى كسجن الإسلاميين والتنكيل بهم مما لا يحظى بأهمية مماثلة في ما لو كان الموضوع اضطهاد ناشط حقوقي له صلة بالمنظمات الدولية مثلًا، وهي مسألة تحيل إلى معايير تصنيف ما هو أولوي، وتنطوي على تبرير ضمني أيضًا للقضايا المهملة في التغطية.
تأمل مثلاً الاختلاف حول الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهي تعكس منظورين قيميين: حرية التعبير، واحترام المعتقدات وأيهما له الأولوية والإطلاقية، ولكن تظهر نسبية حرية التعبير نفسها التي يُزعم لها الإطلاقية في مسائل أخرى مثل ما يتصل باليهود وإسرائيل؛ لأنه يجري تصنيفها ضمن ما تسمى معاداة السامية التي تتفوق هنا على حرية التعبير فتقيدها، وهو ما يفقد قيمة حرية التعبير إطلاقيتها أو يحيل إلى ازدواجية وتحيزات ثقافية وسياسية تخل بالموضوعية. - التناقضات السياسية أو الاحتكام إلى تحيزات مقننة أو معترف بها؛ لأنها ببساطة تعكس الموقف الرسمي أو السياسي الذي فرضته القوى المهيمنة، مثل المسائل المرتبطة بإسرائيل وقضية فلسطين، والموقف من الانقلاب العسكري في مصر والاعتراف به بشرعية الأمر الواقع مع إهمال تامّ لضحاياه الذين في السجون والأحكام الجائرة الصادرة بحقهم وأسلوب معاملتهم، وكذلك الموقف مما يسمى الإرهاب والتطرف. فعلى سبيل المثال لا يتم تصنيف تشكيلات مماثلة ضمن قوائم الإرهابيين: مثل أحزاب اليمين المتطرف، والمليشيات الشيعية المتطرفة، والحوثيين، بل ونظام الأسد الذي قتل مئات الآلاف واستعمل السلاح الكيماوي مرات، مما يطرح تساؤلات عديدة عن معايير الإرهابي والتحيزات الكامنة في تصنيفاته.
يجب أن نتخلى عن فكرة الموضوعية المثالية، ونطرح مقابلها فكرة الموضوعية الممكنة أو الموضوعية المنضبطة المحكومة بمعايير شفافة، بمعنى أن الموضوعية هنا لا تنفي مطلق التحيز، ولكنها تعترف بوجود تحيزات ولكنها تخرجها من دائرة المسكوت عنه أو المخفي إلى دائرة “المعقلن” عبر تقديم تسويغات عقلية لهذه التحيزات من خلال وضع معايير ضابطة للعمل الصحفي
بناء على الخلاف السابق وأسبابه، يمكن لنا أن نفسر العديد من الوقائع الصحفية التي تنطوي على تحيزات واختيارات سياسية معينة ولا يتوفر فيها شرط الموضوعية (التجرد)، وسأذكر هنا 4 أمثلة في العمل الصحفي:
- استعمال مصطلحات تنطوي على موقف مسبق كاستعمال إسرائيل بدل فلسطين؛ الأمر الذي ينطوي ضمنًا على شرعية الأفعال الإسرائيلية في مواجهة أعدائها؛ لمجرد أنها صادرة من أطراف أخرى في مواجهة “دولة” تتمتع بالشرعية والاعتراف الرسمي، واستعمال مصطلح الحرب بدل الحصار؛ الأمر الذي يقفز على حقيقة أن النزاع في فلسطين لا يقوم بين دولتين بل بين دولة احتلال وشعب يدافع عن أرضه، وإطلاق أوصاف الإرهاب والتشدد المشار إليها سابقًا وهو وصم ينطوي على حكم قيمي مسبق ضد الموصوفين بهذا؛ مما يعني انحيازًا لمقابلهم.
- الصمت والتعتيم على جوانب محددة من الواقع، مثل: تفادي الحديث في التغطيات الإعلامية عن الحصار والاحتلال والفصل العنصري، وعدم انتقاد إسرائيل أو عدم تغطية جرائمها؛ بحجة أن هذا يندرج في معاداة السامية أو بادعاء مسؤولية تاريخية عن الهولوكوست كما فعلت “دويتشه فيله” مثلاً.
- تصنيف اصطلاحات معينة يستخدمها الفلسطينيون على أنها تحريض على العنف مثل شهيد ومقاومة، والأقصى وحماس وغيرها، ومن ثم حجبها، كما حصل من إدارة فيسبوك التي اعتذرت عن بعضها مؤخرًا تحت الضغط وبعد تواصل بعض المسؤولين الفلسطينيين معها بهذا الشأن.
- الصياغة المختزلة للواقع: كما فعلت مثلا “فرنسا 24” حين لخصت في تقرير لها الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة بالقول: “القتال الذي استمر 11 يومًا بين إسرائيل ومتشددين في غزة الشهر الماضي، والذي تسبب أيضا في حوادث عنف بين اليهود والعرب في إسرائيل”، فقد اختزلت الصراع كله في كونه بين دولة إسرائيل وفئة متشددة من الفلسطينيين!
ولكن هل نفي وجود موضوعية كاملة أو تامة يعني أنه ليست ثمة معايير في العمل الصحفي المهني، أو أن وسائل الإعلام كلها سواء؟ صحيح أنه لا وجود لإنسان متجرد تمامًا، ولكن في المقابل لا أحد ينكر أهمية التمييز بين الحكم العقلي والحكم العاطفي أو الأيديولوجي (أي غير القادر على رؤية الواقع إلا من خلال قوالب فكرية مسبقة وضعها لنفسه). فكيف نحل هذا الإشكال إذًا؟
يجب أن نتخلى عن فكرة الموضوعية المثالية، ونطرح مقابلها فكرة الموضوعية الممكنة أو الموضوعية المنضبطة المحكومة بمعايير شفافة، بمعنى أن الموضوعية هنا لا تنفي مطلق التحيز، ولكنها تعترف بوجود تحيزات ولكنها تخرجها من دائرة المسكوت عنه أو المخفي إلى دائرة “المعقلن” عبر تقديم تسويغات عقلية لهذه التحيزات من خلال وضع معايير ضابطة للعمل الصحفي، وهذه المعايير يجب أن تخضع لتقاليد المهنة الصحفية كما تشكلت عبر الممارسة الطويلة من جهة، وأن تخضع للسياسة التحريرية للوسيلة الإعلامية المعينة من جهة أخرى.
هكذا تخضع التحيزات إلى معايير وتفتقر إلى تسويغات عقلية متماسكة (justifications) توضح لماذا اختارت هذه المؤسسة أو تلك مثل هذه التحيزات، ولا تدعي النزاهة المستترة والمجردة، ومن ثم يتحول النقاش من النقاش حول مبدأ الموضوعية المجرد إلى النقاش حول اختيارات كل مؤسسة وتعليلاتها لتحيزاتها، ولمدى تطابق المعايير المعلنة مع السياسة التحريرية المتبعة داخل المؤسسة. فالحديث عن مبدأ الموضوعية المجرد سيبقى مثاليًّا؛ ما لم ننزله إلى حقل التطبيق ونحتكم فيه إلى تعليلات ومعايير واضحة وتفصيلية تحكم الممارسة الصحفية وتخضع للنقاش والتقويم العام من قبل مجتمع الصحفيين وجمهور وسائل التواصل الاجتماعي على حد سواء.
ومن هنا فإن وسائل الإعلام تتفاوت، وستتفاوت، فيما بينها في درجة تحيزها، وهي المسافة التي تفصل بين ما نسميه المهني وغير المهني، فالمهني يحركه المحددات التي تفرضها تقاليد المهنة نفسها من حيث المهام الواجبة وإدارة العلاقة مع السلطة، وأساليب صياغة الخبر، ووضع السياسة التحريرية، وغير ذلك. فنفي وجود الموضوعية الكاملة أو إثبات التحيز لدى الجميع، وإن بدرجات متفاوتة، لا يلغي المسافة الفجة التي تفصل -بوضوح- بين العمل الصحفي المهني وبين الدعاية والتطبيل السياسي الذي يأتمر بأمر السلطة أو ينطق باسمها ويعمل على خدمتها.