الدولة العراقيَّة وتتويج فيصل الأول ملكاً عليها
كتب : فاضل البدراني الأحداث أفعال، لها فاعلها، فكيف بفاعل أبرز حدث لدولة مثل العراق، أو ما يقال عنه صانع التاريخ، ولا يصنع التاريخ إلّا القادة العظام، وبلد مثل العراق كبير، لا يعكس عظمته، ولا يتذوق طعم تربته الطاهرة، سوى شعبه الأصيل.
وفي لحظة مراجعة الذكرى المئوية لتنصيب ملك العراق فيصل الأول (20 مايس 1883 – 8 أيلول 1933)، تتجلى صفحات الماضي المفعمة برائحة التاريخ، وعبق العروبة والنضال التحرري، فتستحضر تفاصيل ذلك الحدث، وتستعيد المناسبة وهجها كلما عدنا الى 23 آب 1921 ذكرى تتويج ملك العراق فيصل الأول ابن الشريف الحسين قائد الثورة العربية الكبرى في الحجاز عام 1916، تلك الثورة التي وحّدت جهود العرب وصنعت لهم وعيا بالبحث عن استقلال لدولتهم التي عاشت قرونا من الزمن تحت سيطرة الأجنبي الذي حاول محو هويتهم ولغتهم وسيادتهم العربية.
وأخذت فكرة الاستقلال تتبلور في أذهان الشباب العربي، الذين استوعبتهم طموحات قادة أسسوا جمعيات منها “الفتاة والعهد” تنادي بتحقيق هذا الهدف المنشود، فتمخّض عن تلك التوجهات انعقاد المؤتمر السوري الأول في ربيع 1920، واعتبر بمثابة أول برلمان سوري منتخب في التاريخ، نادى باستقلال سوريا بحدودها الطبيعية، وإعلانها مملكة يولى عليها فيصل ملكا، وتحقق حلم عقد المؤتمر في إثر انسحاب القوات البريطانية التي واجهت القوات العثمانية، وأخرجتها من الأراضي السورية، وتوجت تلك الجهود بإعلان في الساعة الثالثة بعد الظهر من اليوم الثامن من آذار عام 1920، استقلال سورية بحدودها الطبيعية وإعلانها مملكة، وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً عليها، ورُفع العلم السوري بعد أن تقرر أن يكون العلم العربي في الحجاز علماً للبلاد بعد إضافة نجمة بيضاء عليه، ذلك الحلم الذي اصطدم برفض البريطانيين والفرنسيين الاعتراف بالمؤتمر السوري وبقراراته، وخاطبوا فيصل الأول بصفة أمير وليس ملكا، وحيال هذه التطورات السياسية، وصلت للسوريين مقررات مؤتمر سان ريمو 1920، كما انكشف مضمون اتفاقية “سايكس- بيكو” المبرمة بشكلٍ سريٍّ بين بريطانيا وفرنسا منذ 1916، والتي تقضي بوضع العراق وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، وسوريا ولبنان، تحت الانتداب الفرنسي، كواقع حال لاحتلال أجنبي.
وتمخّض عن الرفض الفرنسي- البريطاني لتنصيب فيصل ملكا على سوريا وقوع معركة ميسلون التي استبسل فيها الجيش والشعب السوري ضد الجيش الفرنسي، إلّا أنَّ المعركة لم تكن متكافئة، وفي إثر نتيجتها غادر فيصل سوريا متوجها لبريطانيا التي بدأت بذات الوقت تنفذ بنود “سايكس- بيكو” عندما طرحت في مؤتمر بإعلان “مملكة العراق” ليكون فيصل الأول ملكا عليها، فتشكل مجلس تأسيسي من شخصيات سياسية عراقية بارزة، لتبدأ رحلة فيصل بالتوجه الى العراق في 12 حزيران 1921، من ميناء جدة متجها إلى ميناء البصرة على ظهر الباخرة الحربية البريطانية “نورث بروك” وبعد 11 يوما، وعند وصوله حظي باستقبال شعبي كبير. وزار فيصل عددا من المحافظات العراقية، حتى حان يوم التتويج والمبايعة له ملكا على العراق في 23 آب من عام 1921، في ساحة ساعة القشلة ببغداد بحضور المندوب السامي البريطاني برسي كوكس ورئيس وزراء العراق عبد الرحمن النقيب، وكبار ساسة العراق وقادة ثورة العشرين من العراقيين.
لم يكن تنصيب الملك فيصل يوما طبيعيا، ولا حدثا عابرا، بل كان حدثا تاريخيا لا يمكن أن يغيب عن الذاكرة لارتباطه بهوية العراق وجغرافيته، إنه البداية لتأسيس دولة مملكة العراق التي تشاطرت السياسة مع بريطانيا بالاتجاهين “التوافق، والمعارضة”، مرورا بجولات من الاتفاقيات المبرمة بينهما، ومنها ما حصل في أعوام 1930 و1948 و1952 وأحداث سياسية جسيمة على صعيد موقف العراق كقوى شعبية وحزبية سياسية معارضة، ومتخوفة من التقارب العراقي البريطاني، والأحداث الحاصلة على أرضه وعموم الأرض العربية، وصولا الى ثورة 14 تموز عام 1958 ذلك الحدث المؤلم الذي أنهى عهد الملوك. وإذا كانت المدة التي تولى فيها فيصل الأول ملكا على العراق امتدت من يوم التتويج حتى وفاته في 8 سبتمبر 1933، إثر أزمة قلبية ألمت به، ليخلفه ابنه غازي على عرش العراق حتى وفاته في 4 أبريل 1939، ويمتد الحكم الملكي حتى وقوع مذبحة الملوك في 14 تموز 1958، ينبغي أن نستذكر النهج الديمقراطي الذي ساد حكم العراق، فكانت الصحف تصدر ببغداد والمحافظات بالعشرات، والحياة السياسية كانت تعج بأحزاب المعارضة ولكل حزب جريدة ناطقة باسمه، ومبدأ حرية التعبير عن الرأي كانت مصانة تكفلها سياسة الملك ونهجه الوطني الذي يوازن بين مصلحة البلاد في التعاطي مع بريطانيا على مبدأ “خذ وطالب” من جهة، والشعور الوطني للقوى الشعبية والحزبية المتخوفة من التعاطي مع بريطانيا من جهة ثانية.
وعلى رأي الراحل من صديق شنشل عندما التقيته ذات مرة في المكتبة الوطنية ببغداد، بوصفه العهد الملكي بـ “العهد الديمقراطي الجميل” الذي نجح فيه رجاله من وضعه على أرضية صلبة، وعن أسباب معارضة أحزاب تلك الحقبة للنهج السياسي المتبع آنذاك قال “حب وإحكي، وإكره وإحكي”.