بايدن يؤمن أيضا بمقولة “أميركا أولا”
كتب سينديكيشن بيرو: “يمتلك الأميركيون ساعات اليد، ونحن نمتلك الزمن”، كثيرا ما يُستشهد بهذه المقولة والتي تعود لأحد مقاتلي طالبان، ويعيد الكثيرون استحضار هذا القول وسط كارثة تتكشف ملامحها في أفغانستان بفضل انسحاب متسرع وسيء التخطيط وقصير النظر من الناحية الاستراتيجية للقوات الأميركية وفق تعليمات جو بايدن.
وكان الأمر كما لو أن الرئيس كان ينظر إلى ساعته، وينقر عليها ويقول “دعونا ننتهي من هذا الأمر قبل حلول تاريخ الحادي من سبتمبر، وننتقل إلى التحدي التالي”.
وكتب أحد السفراء السابقين للولايات المتحدة في أفغانستان رايان كروكر مقالا في صحيفة “نيويورك تايمز” يدين فيه بايدن لافتقاره إلى “الصبر الاستراتيجي”.
وأشار كروكر في المقال إلى التقدم الكبير، وإن كان تقدما متعثرا ومليئا بالعيوب، والذي تم إحرازه في أفغانستان على مدى العقدين الماضيين، وذلك التقدم ينهار الآن على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
وقال كروكر “عندما ترك الرئيس باراك أوباما منصبه، كان هناك أقل من عشرة آلاف جندي أميركي. وعندما غادر ترامب البيت الأبيض، كان هناك أقل من خمسة آلاف جندي، ولم تسيطر طالبان على أي منطقة حضرية رئيسية، والآن، تسيطر الحركة على البلد برمته.
فما الذي تغير بسرعة وبشكل كامل؟ إنه عملنا، إنه قرار بايدن بسحب جميع القوات الأميركية، وهو القرار الذي دمر الوضع الذي كان قائما وكان وضعا يمكن تحمله ويمكن له الاستمرار إلى أجل غير مسمى بأقل تكلفة مالية وأقل إراقة للدماء”.
كانت عبارة “وضع قائم يمكن تحمله” طريقة جيدة لوصف ذلك الوضع. ولا يزال أمام الأفغان جهود مضنية لبناء دولتهم، وكان معظم تلك الجهود يقوم بها الأفغان أنفسهم، تحت مظلة أمنية أميركية يمكن تحمل كلفتها. نعم، كانت هناك مشكلات وسوء إدارة وفساد، لكن يجب ألا ننسى أن أميركا أخذت من الزمن ما يقرب من عقدين وحرب أهلية للوفاء ببعض الوعود الأساسية في دستورها، كما يجب تذكر الجحيم الذي خلقته حركة طالبان للأفغان عندما حكموا من 1996 إلى 2001.
قد قال هنري كيسنجر ذات يوم لأحد كبار مساعديه إن قضايا السياسة الخارجية ليست مشكلات يمكن “حلها” بل هي قضايا يجب “إدارتها”، وأراد ترامب “حل” مشكلة أفغانستان من خلال التفاوض مع طالبان وإعلان جدول زمني لسحب القوات، وكانت تلك في الأساس فكرة سيئة، فقام بايدن بتبني تلك الفكرة السيئة ووجهها بعيدا عن مسارها واصطدم بها عرض الحائط.
بايدن أكد أن أفغانستان لن تغيب عن الأنظار سياسيا كما كانت عليه، بل ستكون في الصدارة وبؤرة الاهتمام للسنوات الأربع القادمة
وفي حين أن بايدن هو السبب الرئيسي لفشل سياسة “الصبر الاستراتيجي”، إلا أن ترامب وأوباما قد زرعا جذور ذلك الفشل، ويعود ذلك جزئيا إلى تعهد أوباما بـ”إعادة التوازن” الخاص بسياسة الولايات المتحدة تجاه منطقة آسيا والمحيط الهادئ والابتعاد عن “الحروب الأبدية” لحقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما يسمى بـ”المحور المائل نحو آسيا”، وهي نظرة عالمية تغلغلت إلى أن وصلت إلى قمة مؤسسة الأمن القومي الأميركية.
لم يتفق أوباما وترامب حول الكثير من الأمور وتناقض أسلوبهما تناقضا صارخا، لكنّ كليهما أراد بعمق “الخروج” من صراعات الشرق الأوسط، ليتمكنا من التركيز على الصين، وهي القوة الصاعدة في شرق آسيا.
ناهيك عن حقيقة أن الولايات المتحدة لا يزال لديها عشرات الآلاف من القوات في كوريا الجنوبية وألمانيا، وهي نتيجة مخلفات صراع الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية.
وفي مقابلة نُشرت في مجلة “ذي أتلانتيك”، وصف أوباما العديد من كبار حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بمصطلح “المنتفعين مجانا” بمظلة الحماية الأمنية الأميركية، مما جر واشنطن إلى صراعات إقليمية وطائفية هي في غنى عنها. وقال إن الولايات المتحدة يجب أن تركز على الأسواق سريعة النمو في آسيا وأميركا اللاتينية.
وكان هناك دافع للسياسة الواقعية وفقا لمبدأ “أميركا أولا” في نظرة أوباما للعالم والذي غالبا ما لا يُذكر لأنه كان أيضا هو الذي أوصل ترامب إلى السلطة، وهو الرئيس الذي قال علانية “أميركا أولا”. وقد أظهر أوباما هذه السياسة الواقعية القاسية عندما فشل في فرض سياسة “الخط الأحمر” عندما استخدم بشار الأسد أسلحة كيمياوية ضد شعبه. وأعلن أوباما أن المصالح الأميركية الأساسية ليست معرضة لأي خطر، وبينما كان يتلقى التصفيق والتشجيع من محبيه ومعجبيه، كانت الغالبية العظمى من السوريين يتلقون البراميل المتفجرة ويعيشون في دمار.
من جانبه، كان ترامب متحمّسا لإخراج جميع القوات الأميركية الخاصة من سوريا، وقد خفف الجنرالات من حدة حماسه، في حين صرف مستشارو الأمن القومي انتباهه إلى قضايا أخرى. وعلى الرغم أن ترامب اختار المملكة العربية السعودية كمحطته لأول زيارة خارجية، إلا أن علاقاته مع القوى الإقليمية مالت إلى مبدأ عقد الصفقات منها إلى استراتيجية طويلة المدى، ودائما ما كانت تلوح فكرة “الخروج بأقصى سرعة”.
في هذه الأثناء، ابتعدت مؤسسة الأمن القومي في واشنطن منذ فترة طويلة عن اختصار شائع وهو GWOT ويعني (الحرب العالمية على الإرهاب) نحو اختصار آخر جديدة GPC أو التنافس بين القوى العظمى. وتجدر الإشارة إلى أن صنع السياسات الاستراتيجية لا يجب أن يخضع للاختصارات اللغوية أو الجداول الزمنية البسيطة.
ويبدو أن جو بايدن يؤمن بالمقولة القاسية “أميركا أولا”، كما ذكر المؤلف جورج باكر في سيرة ذاتية ثاقبة لريتشارد هولبروك، لقد رد نائب الرئيس بايدن آنذاك بحدة عندما سُئل عما إذا كان لدى الولايات المتحدة التزام إنساني تجاه الشعب الأفغاني، حيث قال “فليذهب كل ذلك إلى الجحيم”، حسب ما زعم عن بايدن قوله لهولبروك في عام 2010، وحسبما نقل عنه “لا داعي للقلق بشأن ذلك، لقد فعلنا ذلك في فيتنام، وقد أفلت نيكسون وكيسنجر بفعلتهما”.
وهذا الأمر يثير الذهول، خاصة أنه صدر من رئيس أعلن أن حقوق الإنسان والديمقراطية ستعود إلى أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وفي أفغانستان، لدينا وجود متواضع للقوات الأميركية التي أبقت البلاد بعيدا عن أيدي طالبان، وهي جماعة معروفة إنها سيئة السمعة وتنتهك حقوق الإنسان، وكان لدى بايدن في أفغانستان أيضا ديمقراطية هشة وناشئة مع دولة وهيئات حكومية قائمة، والكثير من الناس يحاولون فعل الشيء الصحيح (حتى مع فساد قمة الهرم).
وإذا استعرنا مقولة كيسنجر، بدا الأمر وكأنه قضية يمكن إدارتها وليس “حلها”. وبفعلته تلك المتمثلة في سحب القوات ضمن إطار زمني ضيق وعدم الاهتمام بنصائح الجنرالات، أكد بايدن أن أفغانستان لن تغيب عن الأنظار سياسيا كما كانت عليه، بل ستكون في الصدارة وبؤرة الاهتمام للسنوات الأربع القادمة.