كتب عطية مسوح: مناخ النهوض الثقافيّ
يظن بعض الباحثين والنقاد أن الاستبداد والظلم يشكلان حافزاً للإبداع، لأنّهما يولدان المعاناة، والمعاناة أم الإبداع. ويقدم أصحاب هذا الظن أمثلة من تاريخ الثقافة، ويذكرون مبدعين كباراً، قدموا فكراً عميقاً، وشعراً ونثراً مهمّين، وهم في موقع المضطهد المظلوم.
وفي ظلّ أنظمة قامعة متسلّطة. وكثيراً ما تربط معاناة القمع والفقر بصدق النتاج الأدبيّ، والصدق من أهمّ سمات الفنّ الراقي.
وبرغم وجود الكثير من الأمثلة الدالّة على إمكانيّة ولادة أعمال إبداعيّة كبيرة من رحم المعاناة، ونتيجةَ خضوع المبدعين لتجربة القمع السياسيّ والثقافيّ، ومرورهم في ظروف القهر والفقر، فإنّ ذلك لا يكفي لاستنتاج ارتباط الإبداع العظيم بالقهر السياسيّ والمعيشيّ. ولو كان هذا الارتباط حقيقة مؤكّدة لوقعنا في إشكال ثقافيّ وسياسيّ كبير. لأنّه يعني أنّ من مصلحة الإبداع الفنّي والثقافيّ أن يستمر الاضطهاد والقمع والفقر، كي تستمرّ معاناة المبدعين المثمرة. و لكنّ من يتتبّع مراحل وأماكن ازدهار الفنون والآداب والفلسفات يجد غير ذلك. فالنهوض الثقافي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنهوض السياسيّ، وهما معاً مرتبطان بتوسّع هامش الديمقراطيّة وتوفرِ حدّ مقبول من حريّة التفكير والتعبير.
الثقافة والسياسة تنهضان معاً وتنحدران معاً. فنتائج القهر السياسيّ لا تقتصر على إلحاق الأذى بالثقافة فقط، بل تصيب أوّلاً وبدرجة كبيرة الحركة السياسيّة في المجتمع، فسياسة التسلّط والاستبداد تلغي المعارضة أو تقيّد حركتها على الأقلّ، ولا تقبل بوجود سياسة مخالفة لتوجّهات الحاكمين، فتنشر اللون الواحد المؤيّد، وهذا ما يؤدّي على التدريج إلى شلل الحراك السياسيّ، لأنّ الحركة السياسيّة في المجتمع لا تعيش وتنهض إلاّ إذا قامت على قدمين هما الحكم والمعارضة، اللذين يشكل صراعهما بالأساليب السياسيّة القانونيّة محرّك السياسة ومنعِشها.
أنّ التسلّط والاستبداد يرفضان كلّ موقف ناقد، ويقبلان التأييد فقط، والنقد هو من مهمات السياسة المعارضة والثقافة الجادّة. وهكذا، يقترن ضعف الحراك السياسيّ بضعف الثقافة، ويصبح مناخ الاضطهاد السياسيّ لاجماً للإبداع لا محرّضاً عليه.
السياسة والثقافة إذاً – برغم تناقضاتهما – تعيشان معاً، يقوى كلّ منهما بالآخر، ويُسهم في إنهاضه. وسبب هذا الترابط هو أنّ كليهما لا ينهضان إلاّ في مناخ من الحرّيّة والديمقراطيّة، مناخ الاعتراف بالآخر المختلف والمناقض، والإقرار بحقوقه المساوية لحقوق الذات، وبناء العلاقة معه على أسس الاحترام والحوار والتنافس الراقي بعيداً عن التعالي والعنف والتسفيه، وتاريخ الثقافة يؤكّد ذلك. ولعلّنا نجد المثال الساطع في نهضتنا السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة في العصر الحديث، وتحديداً فيما عُرِف بعصر النهضة، أي بين أواسط القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين. ففي الفترة المذكورة حدثت نهضة حقيقيّة شملت مختلف مجالات الحياة.
فعلى صعيد السياسة بدأ تشكّل الأحزاب وبناء دولة المؤسسات، ووضعت الدساتير في ضوء المفاهيم السياسيّة الديمقراطيّة الحديثة، وبدأت ملامح استقلال القضاء، كما ظهرت معادلة الحكم والمعارضة.. وغير ذلك من ملامح النهضة السياسيّة والقانونيّة. وعلى صعيد التعليم انتشرت المدارس وبدأ تحديث المناهج واتّسع تعليم البنات وأنشئت الجامعات.. وعلى الصعيد الاقتصاديّ أخذت تتكوّن المنشآت الكبيرة، ونما الإنتاج البضاعيّ، وقويت الرأسمالية الوطنيّة وأخذت العلاقات الرأسماليّة تقف ندّاً للعلاقات الإقطاعيّة التي بدأ تراجعها التدرّجيّ، ونمت بذلك الطبقة العاملة، وظهرت النقابات..
أمّا على المستوى الاجتماعيّ فقد أثّر انتشار التعليم وتقدّم علاقات الإنتاج الرأسماليّة على العادات والتقاليد، كما أخذت تطرح بقوّة قضيّة حقوق المرأة، وظهرت المنظمات والجمعيات النسائية وبرزت شخصيّات نسائيّة مؤثّرة في الوعي الشعبيّ..
وعلى المستوى الثقافي كان النهوض هائلاً، فقد بدأ الأدب يتخلّص من الأساليب التقليديّة، ودخلت إلى ثقافتنا أجناس أدبيّة جديدة، وظهر المسرح والفنون التشكيليّة، وانتقلت إلينا المذاهب الأدبيّة، وازداد تفاعل مثقّفينا وأدبائنا مع الثقافة الغربيّة، ونشطت الترجمة، وأدّت إلى اطلاع المثقفين العرب على فلسفات عصر النهضة الأوروبيّة وأهمّها فلسفات العقل والأنوار، والفلسفات الاشتراكيّة وأهمّها فلسفة ماركس، والفكر القوميّ والسياسيّ ونظريّات الحكم.. وظهر لدينا مفكّرون كرّسوا نشاطهم لنشر مفاهيم الديمقراطيّة والدفاع عن حرّية الرأي، وانتصرت حرّية الفكر في كثير من معاركها.
كانت نهضة حقيقيّة شاملة، قطعت المجتمعات العربيّة في مصر وبلاد الشام والعراق شوطاً واسعاً في طريقها، إلى أن توقّفت منذ أواخر خمسينيّات القرن العشرين، لأسباب وعوامل يتداخل فيها الذاتيّ والموضوعي، لا يتّسع مجال هذه المقالة للتطرّق إليها، وقد نتناولها في مقالة أخرى.
ترافق النهوض السياسيّ والثقافيّ إذاً، وكان اتّساع هوامش حرّية التفكير والتعبير هو الشرط اللازم لذلك النهوض، وهذا ما يتعارض مع القول بأنّ الظلم والقهر هما ما يولّد الإبداع.
ولكن، هل يعني هذا أنّ معاناة المفكّر أو الفنّان والأديب لا أهمّيّة لها في إبداعه؟ وهل يستوي من يعاني ومن لا يعاني؟ وأين دور التجربة إذاً؟ ومن أين يأتي الصدق الذي قلنا إنّه من أهمّ سمات الإبداع؟
لا.. لن تذهب المعاناة سدىً، فإنّ معاناة رجل الفكر والثقافة في ظلّ القمع، أو دخوله في تجارب مريرة، أو تعرّضه للظلم، هي ذخيرة ورصيد يغذّي الإبداع اللاحق، الذي لا يمكن أن يظهر وينتشر إلاّ في مناخ حرّية التفكير والتعبير. ومن هنا يمكن القول إنّ المهمّة الأولى للمثقفين هي النضال من أجل تلك الحرّيّة.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: العراق أولاً
لمتابعتنا على فيسبوك يرجى الضغط على الرابط التالي: “العراق أولاً“