المسارات الأكاديمية وخيارات دمج التخصصات
كتب أ. د. طلال ناظم الزهيري: أدى انحسار اهتمامِ الطلابِ في الجامعاتِ العراقيةِ، بتخصصاتٍ علميةٍ وإنسانيةٍ مختارةٍ، والذي يعزى في الغالبِ إلى فرصِ العملِ المحدودةِ داخلَ القطاعينِ العامِ والخاصِ، إلى تحفيزِ حوار جادٍ حولَ إعادةِ التشكيلِ المحتملةِ للمساراتِ الأكاديمية.
ومعَ تقاربِ البحثِ عن المعرفةِ معَ معالمِ سوقِ العملِ، تظهرَ استراتيجية تقدمية – وهيَ محاولةُ العملِ على دمجِ التخصصاتِ. تاريخياً، كانت الجامعات العراقية بمثابةِ بوتقةٍ للمساعي الفكريةِ المتنوعةِ، حيثُ قامتْ برعايةِ العقولِ النيرةِ عبرَ مجموعةٍ من التخصصاتِ والبرامج الأكاديمية المصممةِ خصيصاً، لتلبيةِ متطلباتِ سوقِ العملِ.
ونظراً لاعتمادِ العراقِ الاقتصاديِ على النظامِ الريعيِ، الذي يتمحورُ في المقامِ الأولِ حولَ النفطِ، فإنَ سبلَ توسعِ القطاعِ الخاصِ، لا سيما في القطاعِ الصناعيِ والقطاعِ الزراعيِ، لا تزالُ محدودةً.
ومن المحيرِ أنْ نلاحظَ تراجع الاهتمامِ بتخصصاتٍ مثل الطبِ البيطريِ والهندسةِ الزراعيةِ داخلَ بلدٍ يتمتعُ بمواردَ طبيعيةٍ وفيرةٍ وقدراتِ كامنة، تجعلهُ قوةٌ إقليميةٌ في الزراعةِ والإنتاجِ الحيوانيِ.
وفي مجالِ العلومِ الإنسانيةِ والدراساتِ الاجتماعيةِ، الذي تقعُ في الغالبِ ضمنَ كلياتِ الآدابِ والتربيةِ، يصبح الوضعُ أكثرَ تعقيداً. في حينِ أنَ التخصصاتِ مثل الفلسفةِ، وعلمَ النفسِ، والتاريخُ، والآثارُ، وعلمَ الاجتماعِ، والإعلامُ، وعلومَ المعلوماتِ، والترجمةُ، واللغاتُ هيَ تخصصاتٌ محوريةٌ لا يمكنُ إنكارها، إلا أنَ آفاقها في سوقِ العملِ محدودةً بشكلٍ لا يمكنُ التغاضي عنهُ أيضاً.
ومعَ ذلكَ، يبدو أنَ هناكَ فائضاً ملحوظاً في وجودِ هذهِ التخصصاتِ في معظمِ الجامعاتِ العراقيةِ، معَ درجاتٍ متفاوتةٍ من الجاذبيةِ بينَ الأقسامِ. على سبيلِ المثالِ، تشهد أقسام الإعلامِ في كلياتِ الآدابِ في معظمِ الجامعاتِ العراقيةِ زيادةً في معدلاتِ التحاقِ الطلابِ، مقارنةً معَ الأقسامِ الأخرى اعتقاداً من الطلبةِ أنَ سوقَ العملِ الإعلاميِ أوسعَ منْ باقي التخصصات، في حينِ تواجهُ تخصصات مثل علمِ المعلوماتِ والمكتباتِ تراجعاً سنويٍاً في أعدادِ الطلبةِ الذينَ إذا ما أتيحَ لهمْ الخيارُ، كثيراً ما يلتجئونَ إلى تخصصاتٍ أخرى في الكلياتِ الخاصةِ أو برامجِ الدراساتِ المسائيةِ.
وفي هذا المشهدِ، فإنَ إعادةَ التقييمِ النزيهِ والمحايدِ لهذهِ التخصصاتِ أمر ضروريٍ، لتقديمِ حلولٍ عمليةٍ وقابلةٍ للتطبيقِ. أنا شخصياً أؤيدُ استراتيجية الدمجِ باعتبارها المسار الأمثلِ لهذهِ المرحلةِ. لقدْ حانَ الوقتُ لإعادةِ النظرِ في الأقسامِ التقليديةِ من خلالِ استكشافِ مجالاتِ التعاونِ متعدد التخصصاتِ.
إنَ التكاملَ بينَ تخصصاتٍ مختارة، خاصةً ضمنَ النطاقِ الاجتماعيِ والإنسانيِ، يحمل في طياتهِ إمكانيةَ تحقيقِ مجموعةٍ من المزايا. فمن الممكنِ أنْ يؤديَ دمجُ موضوعاتٍ مثلٍ الفلسفةِ وعلمَ النفسِ، والتاريخ وعلم الآثارِ، والإعلام وعلوم المعلوماتِ إلى استثمار أمثل للمواردِ والإدارةِ الذكيةِ في البنيةِ التحتيةِ التعليميةِ.
علاوةٌ على ذلكَ، يمكنَ لهذا النهجِ أنْ يوسعَ آفاقَ الخريجينَ، ويجعلهمْ في وضعِ أفضلَ لسوقِ العملِ التنافسيِة. ومن أجلِ الحفاظِ على هويةِ هذهِ التخصصاتِ، يكمنُ إدخال سياسيةٍ التفرعِ متعددة التخصصاتِ على سبيلِ المثالِ، فإنَ دمجَ قسمِ الإعلامِ وعلم المعلوماتِ في المرحلتينِ الأولى والثانيةِ ضمنَ البرنامجِ الأكاديميِ على أنْ يتمَ لاحقاً توزيعَ الطلبةِ، وفقاً لمعاييرَ محددةٍ إلى فرعينِ، هما الإعلامُ والصحافةُ والمعلوماتُ وتقنياتُ المعرفةِ، بدءًا منْ المرحلةِ الثالثةِ.
هذا الأمرِ سوفَ يسمحُ للطلابِ بالتخصصِ في المجالاتِ التي تتوافقُ معَ تطلعاتهم المهنيةِ. وعلى نحوٍ مماثلٍ، فإنَ المزجَ بينَ الفلسفةِ وعلمِ النفسِ يعودُ بإثراءِ التآزرِ المتبادلِ، وتزويد الطلابِ بفهمٍ شاملٍ للتجربةِ الإنسانيةِ. إنَ تداعياتِ هذا النموذجِ المبتكرِ عميقة وواسعةً النطاقِ. وسيظهرُ الخريجونَ كأفرادٍ أذكياء ومجهزينَ بمجموعة مهاراتٍ متعددة الاستخداماتِ، مما يجعلهمْ أصولاً لا تقدرُ بثمنٍ في العديدِ من المجالاتِ.
علاوةٌ على ذلكَ، ومنْ خلالِ تعزيزِ التآزرِ بينَ الأساتذةِ في تلكَ التخصصاتِ، تلوح في الأفقِ إمكانية إجراءِ أبحاثٍ رائدةٍ ومنهجياتٍ تربويةٍ رصينةٍ. ستستفيدُ المؤسساتِ التعليميةَ نفسها، حيثُ يؤدي التوزيعُ الأكثرُ فعاليةً للمواردِ والتخصيصِ الاستراتيجيِ إلى بيئةٍ تعليميةٍ ديناميكيةٍ وفعالةٍ.
قدْ يثيرُ النقادُ لهذا النهجِ مخاوفَ بشأنِ التخفيفِ المحتملِ للمواضيعِ الأساسيةِ، لكل من التخصصاتِ المدمجةِ أو التعقيداتِ المرتبطةِ بالتنفيذِ. ومعَ ذلكَ، فإنَ التخطيطَ الدقيقَ والتواصلَ الفعّالَ، يمكنُ أنْ يخففَ منْ هذهِ التحفظاتِ. إذْ تعد المساعي التعاونيةُ بينَ الأكاديميين والإداريينَ التربويينَ وخبراء الصناعةِ أمرا بالغ الأهميةِ في صياغةِ منهجٍ دراسيٍ متماسكٍ وفعال، يتماشى معَ متطلباتِ الطلابِ ومشهد التوظيف المستقبلي.
لا شكَّ في أنَ تحقيقَ استراتيجيةِ التكاملِ هذهِ تتطلبُ الوقتَ والجهودَ المتضافرةَ والنظرةَ المنفتحةَ. يمكنَ للجامعاتِ العراقيةِ أنْ تستمدَ الإلهامَ من النماذجِ العالميةِ الناجحةِ، حيثُ قامت البرامجُ متعددة التخصصاتِ برعايةِ الخريجينَ المتميزينَ، بمزيجهم المميز من المهاراتِ. ومن خلالِ تبني التغييرِ وتفكيكِ الحواجزِ التقليديةِ، تستطيع الجامعاتُ العراقيةُ أنْ تشقَ طريقا نحوَ عصر تعليميٍ جديد، وتنشئة الطلابِ، ليصبحوا أفرادا قادرينَ على التكيفِ، ومتطلعينَ إلى المستقبلِ، وقابلينَ للتوظيفِ بشكلٍ كبيرٍ.
ومن خلالِ تبني التغييرِ وكسرِ الحواجزِ التقليديةِ، يمكنَ للجامعاتِ العراقيةِ أنْ تمهدَ الطريقَ لعصرٍ جديدٍ من التعليمِ، الذي يمكن الطلاب من أنْ يصبحوا أفرادا مرنينَ ومتطلعينَ إلى الأمامِ، وقابلينَ للتوظيفِ بشكلٍ كبيرٍ. لقدْ حانَ الوقتُ للجامعاتِ العراقيةِ لإعادةِ تعريفِ التعليمِ بجرأةِ، استجابةً للمشهدِ الاجتماعيِ والاقتصاديِ المتغيرِ. وتقدمَ سياسةَ دمجِ التخصصاتِ. حلاً واعداً لتراجعِ الاهتمامِ بمجالاتٍ معينةٍ، معَ فتحِ الأبوابَ في الوقتِ نفسهِ أمامَ فرصِ عملٍ متنوعة. ليسَ على مدى الأمثلةِ التي قدمناها فقط، وإنما في مراجعةٍ شاملةٍ لكلِ التخصصاتِ العلميةِ والإنسانيةِ الأخرى.