البريكس وهيمنة الدولار
كتبت سناء الوادي: كانت لقمة البريكس بدورته السادسة عشرة هذا العام، أهمية استثنائية بعد توسيعه وانضمام أربع دول جديدة له، هذا فضلاً عن الكثير من الدول التي أبدت رغبتها بالدخول تحت مظلة البريكس، وتنتظر القبول.
إنَّ الاهتمام الذي جذبه هذا التكتل الاقتصادي يرتكز على محاور عدَّة، كان الأبرز اتفاق الدول الأعضاء صراحةً ورغبة البقية، بالتخلص من الهيمنة المطلقة للدولار على أسواق العالم، وهذا بالضرورة لا يعني انتهاء الدولار كعملة، وإنما السير بخطى واثقة على طريق خلق بدائل موثوقة لهذه العملة، كركيزة للتعامل، تجعل من الدول المنضوية تحت لواء البريكس أكثر حرية وقوة في معاملاتها الاقتصادية، وما سيترتب على ذلك حكماً من إزاحة أمريكا من عرش تسيُّد العالم والتحكم بمصائر الدول، بعدما أثبتت السنون الماضية والتي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أنَّها أطبقت الخناق على كلِّ من يعارض مشيئتها ومصلحتها، حتَّى أنها مارست معاييرها المزدوجة بكل وقاحة على المنظمات الدولية، كمجلس الأمن والمؤسسات القانونية والمالية كالبنك الدولي وصندوق النقد، على اعتبارها بلد الدولار وتتحكم بجميع العملات، بقرارٍ من حاكم الفيدرالي لديها.
هذا وقد أجمع غالبية المحللين على اختلاف انتمائهم، على أن البريكس يوماً بعد آخر يشكل حجرة جريئة تُرمى في المياه الراكدة، فقد راقبت بلاد العم سام هذه الخطوة بالمزيد من القلق، وكان قد ظهر جليَّاً في كلام الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، حينما قال إن قوة أمريكا تنبع من الدولار وأن أمريكا ستعادي كل من سيحاول تغيير هذا الواقع.
بيدَ أنَّ التغول الذي مارسته واشنطن على الدول في الأعوام الأخيرة، وفرض العقوبات التعسفية والتي تحرم الدول المعاقبة من ملياراتها واستثماراتها وتجمّدها أو تتصرف فيها كيفما ترتئي، وهذا بالفعل ما جرى مع 300 مليار دولار للدُّب الروسي كانت قد وضعت اليد عليهم سواءً وقبل ذلك مع إيران، ما يضع الدول التي تستثمر في الخزانة الأمريكية وغيرها من الأصول في الدول الحليفة لها في مهب الريح، ولربما ذلك ما يفسّر سحب الصين لجزء لا يستهان به من دينها للخزانة الأمريكية، فضلاً عن البدء باستبدال الاحتياطي الأكبر في العالم من الدولار الذي في حوزتها إلى الذهب، وكذلك تفعل روسيا ودول أخرى.
وفي هذا السياق كانت التجربة الصينية المثيرة للاهتمام في النهوض والمجابهة كقوة فاعلة اقتصادياً وسياسياً إلى جانب موسكو في حربها على الناتو داخل أوكرانيا، ولا نغفل كذلك الدهاء الروسي الملهم في التحايل على العقوبات وإدرار العوائد المالية الضخمة، جرَّاء ذلك، ناهيك عن الاتجاه للشرق ودول الجنوب وتشكيل التحالفات التي أعطت للكثير من البلدان، التي تعاني من مشكلات في السيولة النقدية للدولار بارقة أمل، وأتاحت لها فرصة التعامل البيني بعملاتها المحلية، وما يضفي على تكتل البريكس هذا البريق الاستثنائي ذلك الوجه السياسي، الذي أبرزته قمة قازان بأن الرئيس الروسي وباستضافته لثلاثين من قادة العالم ومنظمات عالمية، ناهيك عن حضور الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيرش”، وفي ذلك إشارة لفشل سياسة العزلة التي حاولت واشنطن إيقاع بوتين بها، ناهيك عن استضافة القمة لممثل عن الشعب الفلسطيني وإظهار العجز أو عدم الرغبة الفعلية الأمريكية بإيقاف آلة القتل الصهيونية التي تُمارس على الفلسطينيين، أما على المقلب الآخر ففي ذلك استفادة من خلاف واشنطن مع حلفائها الغربيين، كبريطانيا وألمانيا وفرنسا حول الصراع في الشرق الأوسط، وما يُجهَّز للبنان تحديداً.
كذلك فإنَّ العمل على إنشاء بدائل للمنظومة المالية الحالية كبنك التنمية الجديد الذي قد ينوب عن البنك الدولي وترتيب الاحتياطي الطارئ، بديلاً عن صندوق النقد، ناهيك عن فكرة نظام الدفع بريكس بريدج الذي سيقوم بالمراسلات بين البنوك المركزية للدول الأعضاء، دون اللجوء لنظام سويفت، لا يتعارض مع محاولة البريكس على إذابة الخلافات بين أعضائه، والتي قد تحد من الاندماج الفعلي مع أهداف المنظمة، كإعلان الصين الاتفاق مع الهند على تخفيف حدة التوتر الحدودي بينهما، ولربما وساطة قادمة بين مصر وإثيوبيا حول سدّ النهضة، وكذلك بين إيران والإمارات بشأن خلافهما على الجزر في الخليج العربي، وبالتأكيد هذا لا ينفي اتجاه دولة كالهند نحو الغرب بالاستثمارات والرغبة في النهوض السريع كمنافس للصين على زعامة الشرق، إلا أنه وباعتقادي من مصلحة الجميع العمل على تفعيل أقطاب أخرى غير أمريكا في هذا العالم، وأنَّ هذه الخطوات تشبه لحد كبير بداية تشكل النظام القائم حالياً في العقد الخامس من القرن الماضي.