فرص العمل وغياب الاختصاص
كتبت سوسن الجزراوي: بما إن اقتصاديات الدول المتحضرة والساعية للتقدم، ترتكز على أساس وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، جاءت الحاجة لأهمية أن يكون الاختصاص في مكانته العملية الحقيقية ولعدة أسباب، منها أن التخصص يعزز من قيمة الدراسة العلمية، التي أمضى فيها الطالب سنوات كثيرة، درس فيها نظريات ذلك (التخصص).
لو قادتكم الظروف يوماً لزيارة مختبر تحليلات معين على سبيل المثال، واكتشفتم أن المحلل اختصاصي في علوم الأرض (الجيولوجيا)! هل لكم أن تتخيلوا حجم الصدمة حينها، خاصة لو أدركتم أنه متمرن على سحب الدم بحكم التدريب فقط! كذلك الحال عندما تكتشفون أن من صمم وأشرف على بناء منزلكم هو خريج كلية القانون، لكنه مارس عمل البناء واستعان بخرائط البرامج الإلكترونية، التي يوفرها الحاسوب ليس إلا.
وقبل أن أسترسل وأسجل هنا العديد من الأمثلة عن اختلاف العمل وابتعاده عن التخصص، أقول: كل الاحترام للجيولوجي والمحامي ومقاول البناء، وكل هؤلاء الذين يمارسون مهناً مهمة يحتاجها الجميع بلا استثناء.
الفكرة من حديثي هذا تكمن في احترامي للتخصص ورفضي للتخبط! قد يشير البعض إلى أن الشباب لا يعيبهم أن يعملوا في أي مجال طالما كان عملاً شريفاً، بعيداً كل البعد عن الموبقات والمحرمات وغير ذلك، وحتى هنا وفي هذا المجال اتفق معهم ولكن! واسمحوا لي أن نقوم معاً بإحصائية سريعة لنعرف آراء الناس في هذا التخبط العملي! وأنا واثقة كل الثقة أن ما يقرب من نسبة 90 % سترفض وبحزن، أن يقوم خريج كلية الزراعة مثلاً بالعمل كسائق تكسي، أو أن يعمل خريج الهندسة، إدارياً في شركة أهلية، اضافة إلى رفضهم أن تعمل خريجة قسم المحاسبة، موظفة استقبال ! والقائمة تطول ولا تنتهي.
إذن، ما الذي دفع بخريج العلوم السياسية لأن يعمل في وزارة الرياضة؟! وخريج هندسة الحاسوب أن يعمل في مختبر للتحليلات، أو خريجة قسم الإخراج المسرحي أن تعمل في مجال حقن الشفاه أو الليزر؟
إنه غياب فرص العمل بلا شك ! غياب توفير المساحات المطلوبة بالتخصصات المطلوبة واحترامها والنظر إليها على أنها عنصر أساسي في نجاح العمل، كي نحصل على نتائج مذهلة ناتجة عن اجتماع (العمل) بالتخصص.
وإذا سلّمنا جدلاً أن نظرية (حب ما تعمل حتى تعمل ما تحب)، هي أحد أسباب هذا التناقض ما بين المهنة والاختصاص، فسوف نقع في محظور الإقصاء للعلم والمعرفة، إذ لا يمكن وبكل المقاسات المهنية، أن يكون التخصص المعرفي ورقة خاسرة، تضعها الظروف أياً كانت، في دوامة الذرائع وحجج قلة فرص العمل.
فالطالب والباحث، يضع عصارة شبابه في نظريات العلم وقوانين البحث ومعادلات الدراسة المتخصصة، كل هذا لا يمكن أن يتحول بين عشية وضحاها، إلى واقع مسلّم به.
وبما أن اقتصاديات الدول المتحضرة والساعية للتقدم، ترتكز على أساس وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، جاءت الحاجة لأهمية أن يكون الاختصاص في مكانته العملية الحقيقية ولعدة أسباب، منها أن التخصص يعزز من قيمة الدراسة العلمية، التي أمضى فيها الطالب سنوات كثيرة، درس فيها نظريات ذلك (التخصص)، وحتى تتحول هذه الأخيرة إلى إبداع وإتقان، وجب أن يعمل الدارس في المجال الذي درسه.
من ناحية أخرى، فإن زج الفرد في مجالات عمل بعيدة عن اختصاصه تجعل منه إنساناً محبطاً بدون نقاش، وقد يتوارث هذا الإحساس جيلاً بعد جيل، فالصور انعكاسات للواقع، وبالتالي فإن النجاح يعكس صورة الإبداع، والفشل يعكس صورة الخذلان.
لذا صار من الضروري أن تولى الاختصاصات أهمية أكبر وأوسع، لأنها تسهم بشكل كبير في نجاح المشاريع العملية، سواء ما كان منها علماً تقنياً أو علماً إنسانياً، بالتالي، وبلا شك، فإن ما تم الحديث عنه، سيعكس بصورة جلية أنيقة، صورة الوطن الناصعة الذي يسعى القائمون عليه جاهدين، وعبر خطط استراتيجية واهتمام واضح، لتحقيق الإبهار والنجاح، وبالتالي الوصول إلى التميز في (العمل)، وهذه صفة العراقي ولا فخر.